حوار مع سعد سلوم مدير مركز المشرق للدراسات الستراتيجية ورئيس تحرير مجلة مسارات الثقافية (1/2)

صفاء ذياب- من بغداد: سعد سلوم من أنشط المثقفيين العراقيين الشباب في فترة ما بعد التغيير الذي أعقب 9 نيسان 2003. وربما يبدو لنا من المهم أن نتفحص سلسلة انتقالات انشغالات) هذا المثقف الشاب (يبلغ من العمر31 عاما) لكي نفهم المناخ العام الذي وجد المثقف العراقي فيه نفسه في اعقاب سقوط نظام صدام، فسلوم مهتم بالفن التشكيلي ويصف نفسه برسام فاقد للرؤية وللادوات، تركه الرسم قبل ان يقوم هو بتركه، أقام معرضا شخصيا أيام سنواته الجامعية في كلية القانون حمل عنوان (صوفية وسريالية) وكان يصنف نفسه ضمن اتباع المدرسة الوحوشية، وكان سعيدا لسرقة لوحاته من مرسم كلية القانون في احداث الفرهود التي سبقت سقوط النظام quot;الان أصبحت لوحاتي ذات فائدةquot;،هكذا يعلق على ذلك الحادث. وهو قاص متميز نشرت له قصصا جميلة عندما كنت مسؤولا عن الصفحة الثقافية في جريدة النهضة منها قصته الغريبة quot;سقوط كومةquot; وقصته الممتعة quot;الحاج مالكquot;. إلا انه يصف نفسه بالقاص المتعفف، فيرفض برغم إلحاح أصدقائه طباعة مجموعته القصصية quot;ثمانية أعوام في الاسبوعquot; حيث يقول: (الوقت لم يحن بعد أو انه قد فات بالتأكيد؟). وهو روائي خجول وكسول يتحجج بضيق الوقت ومسؤوليات العمل والمشاغل الفكرية عن تصحيح روايته quot;الصوت الداخليquot;. وهو محام نشط لم يمارس مهنة المحاماة الا ليركنها جانبا! وهو شاعر مقل اقتصر نشاطه على ما نشره من قصائد في الصحف وقصائد اخرى كان يتداولها ويلقيها على المقربين منه فحسب، ذلك ان الشعر بقي لديه هاجسا شخصيا وحميميا quot;أصدقائي هم اجمل قصائديquot; هذه العبارة كانت مفتاح معرفتي به. ثم ها هو يرتدي مسوح المفكر السياسي و يغير ادواته الكتابية وينطلق في عالم الكتابات السياسية النقدية لروح العصر، حيث تناول اشكالية الاصولية الدينية في العالم المعاصر وقدم مفهوم الجوهر الواحد للاديان لبناء استراتيجية موحدة للاديان، واهتم بإعادة اكتشاف مفهوم الثورة وقدم تصوره لصورة مثقف يفكر عالميا وينشط محليا على طريقة ريجيس دوبريه، كما قرأنا له في الصحف مشروعه الشامل لاصلاح الامم المتحدة الذي نشره على شكل حلقات في جريدة الصباح، وأخذ على عاتقه بكل جرأة مهمة نقد العقل الاميركي في دراسة حولها مؤخرا لكتاب حمل عنوان quot;امبراطورية العقل الاميركيquot; سيصدر خلال الاشهر القليلة المقبلة. انه باختصار ثوري، شاب متقاعد!، جاء في زمن انقراض الثائر المحترف إذا أردت أن أطبق عليه منطق فواصله الثورية التي جاءت في مسار العصر الذي كتبه للعدد الثاني من مجلة مسارات. سعد سلوم الذي عمل رئيسا لتحرير صحيفة الجهات منذ تموز 2003 ومديرا لمكتب جريدة المشرق منذ نيسان 2004 يعمل الآن مديرا لمركز المشرق للدراسات الاستراتيجية ورئيسا لتحرير مجلة مسارات الفكرية الثقافية، لذا كان حوارنا معه يأخذ طابع التعاطي مع الشأنين الثقافي والسياسي اللذين لا ينفصلان داخل مثقف ينتمي بقوة لقضايا عصره ويأخذ تفكيره طابعا عضويا في تفاعله مع الواقع، انه جدل الفكر والواقع والصراع بين ما هو كائن وما ينبغي ان يكون. ولعل هذا الحوار يكشف جانبا مهما من محنة المثقف والثقافة العراقية في مرحلة ما بعد التغيير ويستشعر افاق مستقبل يشكل بناءه مخاضا عسيرا امام مثقفي الداخل والخارج:

* كان مركز المشرق للدراسات الستراتيجية من أوائل المراكز العراقية التي عنت بالأحزاب العراقية، ما نشاطات مركزكم؟
- أقمنا العديد من الحلقات النقاشية التي تناولت قضايا إشكالية ملحة، من أهمها حلقتنا في نيسان 2004 عن مستقبل المجتمع المدني العراقي وحضرها العديد من الباحثين والأكاديميين العراقيين وبعض الشخصيات الناشطة في مجال المجتمع المدني.
كما أقام مركز الدراسات حلقة نقاشية للبحث الموسوم (مستقبل الشباب في عراق ما بعد التغيير) وقد حضره العديد من المهتمين بشريحة الشباب، كذلك حضره أساتذة متخصصين في علم الاجتماع وعلم النفس، وبعض ممثلي مراكز الشباب في الأحياء السكنية من محافظة بغداد. فضلا عن ذلك أقام المركز ندوة نقاشية حول مستقبل الديمقراطية في العراق وانتاب الندوة جو متفاعل من الطروحات المختلفة حول مستقبل الديمقراطية في العراق وعالج إشكالية العلاقة ين الدين والسياسة ومستقبل المؤسسة الدينية في النظام الديمقراطي كالعراق أنموذجا. كما أقام المركز حلقة حول معايير الناخب لاختيار مرشحي البرلمان في انتخابات 15/12/2005 وإشكالية العاطفة السياسية لدى الناخب العراقي. فضلا عن نشاطنا المتواصل لعمل استطلاعات الرأي التي كانت تنشر دوريا في جريدة المشرق لكنها توقفت مؤخرا.

* ما دمت قد أشرت الى موضوع العاطفة السياسية لدى الناخب العراقي، كيف تنظر الى دور مراكز الدراسات في تهيئة عملية التحول الديمقراطي؟
- في خضم بيئة سياسية محلية تكتظ بما تجاوز الحدود المتوقعة من الأحزاب والقوى السياسية المتباينة، من حيث النوع والهدف، صار من الصعب الإلمام بالخارطة السياسية الداخلية للعراق حتى ليبدو الحال اقرب منه إلى الفوضى منه إلى حال النظام. ولكن طبيعة الواقع الذي يعيشه العراق الآن وفي ظل المتغيرات التي أفرزتها المرحلة السابقة يجعل لزاماً علينا وفقاً لكل المقاييس والمعطيات السياسية الممكنه رفع درجة إدراكنا السياسي للبيئة السياسية الداخلية في العراق، فبلدنا لم يمر بمراحل النمو السياسي الطبيعية التي مرت بها جميع دول العالم المتحضر عبر انتقالها من حقبة الحكم الفردي إلى ديمقراطية تعددية، بل إن عملية الانتقال قد جاءت على شكل صدمه ليست ذات مقدمات أو ممهدات.

* وكيف ترك ذلك أثره على تياراتنا السياسية الفاعلة في الداخل؟
- إن حالة عدم الوضوح التي تعتري المشهد السياسي اليوم أدت بمعظم هذه الأحزاب والقوى السياسية العراقية إلى قدر غير يسير من الاضطراب وغياب الاستراتيجية لملاءمة للتعامل مع معطيات الواقع حيث إن غياب الاستراتيجية مرده عدم توافر تلك الأحزاب والقوى السياسية على الإدراك الدقيق لطبيعة التفاعل السياسي المحلي وقصورها عن استيعاب التنوعات الفكرية والحزبية المتواجدة على الساحة السياسية وللتحالفات والائتلافات السياسية بين الفاعلين السياسيين الداخليين.
لذلك فان من الضروري بمكان لكل فاعل سياسي عراقي من بين الأحزاب والقوى السياسية إن يمتلك مصدراًَ أساسياً لاستقاء المعلومات الدقيقة بشأن الساحة السياسية الداخلية. وان ذلك المصدر يتمثل بمركز بحثي لرصد الأحزاب والقوى السياسية وتفاعلات السياسة المحلية ويعتمد مثل هذا النوع من المراكز على المنهجية العلمية في الحصول على المعلومات وتحليلها وأجراء الدراسات الميدانية الاستبيانية لقياس الميول والاتجاهات الجماهيرية وقياس اتجاهات الرأي العام بخصوص التيارات والأفكار المبثوثة أو الرائدة ومعدلات جماهيرية وشعبية الاحزاب والقوى السياسية.

* وهل اضطلعتم بعمل من هذا القبيل؟
- لقد حاولت منذ نيسان 2004 ان اوفر مادة مناسبة لعمل ملف إحصائي كامل عن الأحزاب والقوى السياسية العاملة في العراق، يحتوي جميع المعلومات المهمة والضرورية للتعرف على تلك الأحزاب والقوى السياسية. وقد واجهتني مصاعب وعقبات هائلة، وكنت اتمنى ان يكون هذا العمل باكورة اعمال المركز لا سيما وانه سوف يحمل اسم (الدليل السياسي العراقي) ليصبح المرجع الأول والأخير في هذا السياق المهم. وعلى الرغم من تقدم المشروع خطوات مهمة الا انه لم ير النور حتى يومنا هذا.

* ما نطاق وحدود عمل المراكز البحثية في هذا الشأن؟
- يتمثل الحقل الرئيس لعمل المراكز في حدود التفاعلات السياسية داخل البلد، ويمكن ان يشار بهذا الصدد الى مجموعة من الموضوعات الرئيسة التي تمثل صلب عمل المراكز مثل القيام بمسح ميداني للتعرف على اكبر قدر من الاحزاب والقوى السياسية العراقية، وجمع ما يمكن من الوثائق المتعلقة بها. وتشخيص عناصر القوة ونقاط الضعف لكل حزب سياسي او منظمة سياسية ودراسة العناصر المشتركة بين تلك الاحزاب والقوى وبالتالي التعرف على التحالفات السياسية الموجودة فيما بينها, والتنبؤ بالتحالفات الممكن حدوثها في المستقبل. كما إن من المهم القيام بدراسات ميدانية تتعلق بقياس مدى شعبية الاحزاب بشكل عام وقياس معدلات الرأي العام بخصوص قضايا محددة تخضع للاختبار عبر استمارات استبيانية تحتوي على اسئلة دقيقة ومركزة لجمع بيانات يتم فيما بعد معالجتها بأسلوب رياضي للوصول الى النتائج.

* ما دمنا ما نزال نناقش عملية التحول الديمقراطي، ما تقييمكم لوضع الحريات العامة بعد سقوط النظام الدكتاتوري الصدامي؟
- لسنا نخفي على احد اننا نعيش في ظل مفارقة مؤلمة فبعد تخلصنا من قمع ووصاية الدولة التي اختطفت حرياتنا نعيش الان في وضع اللا دولة حيث ثبت لنا ان لا حرية تحيا الا في ظل القانون، فبلدنا كما يعرف الجميع يعد اليوم أكثر بلدان العالم خطورة بالنسبة للصحفيين. حيث تم اختطاف أكبر عدد ممكن منهم. وقتل الكثير واعتقل اخرون، وقد كان الفراغ السياسي في البلاد في اعقاب دخول القوات الامريكية وانتشار وباء المنظمات الارهابية والجماعات التكفيرية المسلحة والميليشيات المتطاحنة قد اثر في ازدياد الانتهاكات التي يتعرض اليها الصحفيون والتي لم ينجح احد او مؤسسة دولية او جهة رسمية في ايقافها او تحجيم اخطارها المستمرة وتشير الارقام المتداولة الى ان الحرب على العراق كانت هى الاكثر خطورة و قتلا بالنسبة للصحفيين منذ حرب فيتنام و التى قتل فيها 63 صحفيا لكن على مدى عشرين عاما (1955-1975). خلال القتال فى يوغسلافيا ما بين 1991 و 1995 تم قتل 49 صحفى في أثناء تأدية عملهم كما تم قتل 57 صحفيا فى الجزائر خلال الحرب الاهلية ما بين 1993 و 1996. وهناك تنوع في الجهات التي تستهدف الصحفيين، بل إن الصحفي العراقي مستهدف من كل الاطراف المتنازعة دون استثناء من دون اعتبار للمهمة الخطيرة للصحفيين في نقل الحقائق عما يحدث على المسرح المعاصر لبلاد الرافدين لا سيما وان ذلك يشكل احتراما لحق رئيس من حقوق الإنسان، الحق في الحياة، والحق في الحرية والتنقل والعمل، والحق في الاتصال والإعلام ونقل الحقائق والمعلومات إلى الرأي العام وبذلك تتعرض صورة الحقيقة للتغييب او التحجيم او للحجب، في الوقت الذي يشكل فيه الصحفيون هدفا سهلا للعنف الطائش والنزاعات المسلحة فانهم يظلون المصدر الرئيس والمساهم الفاعل في مصادر المعلومات وتفعيل حق الفرد في الحصول على الحقائق والاحاطة بالمعلومات (حق الحصول على المعلومات والوصول اليها) ومن ثم فان استهدافهم يشكل حجبا لهذا الحق المكفول قانونا.

* لكن ألا توجد ضمانات وحماية تقدمها الدولة او بعض الجهات الرسمية او ان هناك تحركا في هذا الاتجاه على الاقل؟
- إذا كانت الحكومة بحاجة للحماية، فكيف تستطيع حماية غيرها؟ والحقيقة ان ذلك يجعل الاصوات التي تعلي من شأن التحول الديمقراطي في العراق تتنقل في عراء الحقيقة المرة فيصيبها الخرس.

* ولكن حرية الرأي والتعبير اليوم في العراق افضل حالا واداءً من كثير من الدول المجاورة؟
- هذا تصور نسبي ولا يمكن قياس نجاح شيء عن طريق المقارنة، فليس وضع الانسان العربي سوى وحدة قياس بائسة، ثم ان الحق في حرية الرأي والتعبير يمثل أحد حقوق الإنسان الأساسية التي لا تقوم قائمة أي نظام ديمقراطي بدونه. وإذا رسمنا مثلثا توضيحيا لعناصر هذا الحق الاساسية فان احد اضلعه يمثل الحق في اعتناق الآراء والأفكار والتوجهات التي يريدها الفرد، دون تعرضه لأي ضغط أو إكراه، إضافة لقدرته على التعبير عن هذه الأفكار والتوجهات، باستخدام شتى الوسائل، ومن دون وجود أي تهديد خارجي، يحد من حرية التعبير ونقل الأفكار والمعلومات بكل حرية. في حين يمثل ضلعه الثاني الحق في الوصول الى المعلومة ذلك ان الحق في حرية الرأي والتعبير في ارتباطه الصميمي والجوهري بالحق في الوصول للمعلومات ونشرها، واعتماده الاساسي عليه يجعل من المستحيل التمتع به وممارسته بكل حرية، من دون أن يكون هناك تداول وتبادل للمعلومات، بحيث يتمكن المواطنون من الحصول على مختلف المعلومات التي يريدون، والمتعلقة بقضية معينة، من مصادرها المختلفة، وبلورة الآراء الخاصة بهم والتعبير عنها، لا سيما حين يتعلق هذا الحق بمصير حياتهم وهندسة مستقبلهم كما يحدث في العراق. كما يمتثل الضلع الثالث في عنصر الحماية اللازمة للحق فمن دون توفر جو يسوده الاستقرار والأمن فان هذا الحق يبقى مهددا ومهدورا في ظل فوضى العنف التي تفرغ كل الحقوق من مضمونها وتحيلها الى محض كلمات مطبوعة على صفحات مواثيق جامدة. وبالطبع ان المخاطر التي يتعرض لها الصحفيون تضعف من ضمانات تفعيل هذا الحق ومن ثم كان توفير الحماية للصحفيين في اثناء حصولهم على المعلومة ضمانة هامة في طريق كفالة هذا الحق. واعتماداً على ما تقدم فإن أضلع مثلث الحق ليست متكاملة في أية دولة من دول المنطقة بما فيها العراق.

* ولكن الدستور العراقي متقدم عما سواه في إقرار حرية الرأي والتعبير؟
- هذا كلام مجاني ذلك لأن دستورنا الحالي لا يختلف عن بقية دساتير العالم التي نصت على حرية الرأي والتعبير وأقصد هنا المادة 36 منه تحديدا والتي نصت على ان الدولة تكفل وبما لا يخل بالنظام العام والاداب: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل وحرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر وكذلك حرية الاجتماع والتظاهر السلمي والاخيرة تنظم بقانون. والقيود والمخاوف المطروحة ازاء تفسير وتطبيق هذا النص تدخل ضمن افق عربي عام ملبد بالغيوم ففيما يخص تنظيم حرية التعبير، تحيل الدساتير عادة الى القانون تنظيم الحريات التي نص عليها الدستور والتخوف الماثل هنا ينصب على ان القوانين الضابطة والمنظمة لحدود هذه الحريات قد تعمل على تضييق هذه الحريات بالضوابط وتقييدها مما يفرغ هذه الحقوق من مضمونها. وقد استدركت المادة 44 من الدستور هذه المخاوف فنصت على ان quot;لا يكون تقييد ممارسة أي من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور او تحديدها الا بقانون او بناء عليه على الا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق او الحريةquot;.
لكن هناك قيدا عاما أشار اليه النص هو عدم الاخلال بالنظام العام والاداب. وهذا القيد موجود في اغلب دساتير العالم ويتوقف تفسيره على اجتهاد القضاء الذي يجب ان يلتزم بمبدأ عام هو ان السلطة التشريعية لا يجوز لها ان تضع قيدا على حرية المواطن من شأنه أن يؤثر على جوهر الحق أو الحرية وهو مانصت عليه المادة 44 التي اشرنا اليها كما تبرز الخطورة في هذين المصطلحين من امكانية سوء تفسيرهما (او التوسع في تفسيرهما مما يقضي على جوهر الحق) بما يضع قيود على حرية الفرد مما يؤدي الى اهدارها ويساعد في ذلك كون المصطلحين يشيران الى مفهومات نسبية ومتغيرة في الزمان والمكان. فالنظام العام أمر نسبي متغير ومتطور طبقا لتغير وتطور ظروف الزمان والمكان، وما يعتبر من النظام العام في بلد قد لا يعتبر كذلك في بلد آخر، وما كان من النظام العام في زمن ما، قد لا يكون كذلك في الحاضر او المستقبل فالنظام العام في البلاد الإسلامية يجيز تعدد الزوجات في حين يحرمه النظام العام في الدول الغربية كما أن فكرة النظام العام تضيق وتتسع تبعا للمذهب السياسي والاجتماعي الذي يسود المجتمع، فإذا ساد المذهب الفردي والذي يطلق الحرية الفردية ولذلك لا يقبل تدخل الدولة في أنشطة الأفراد إلا بالقدر الضروري ويترتب على ذلك أن تقل المصالح العامة التي تمثل فكرة النظام العام وضاقت من ثم هذه الفكرة، أما حيث يسود النظام الشمولي الذي يقدم مصلحة الدولة على مصلحة الفرد، ويدعو إلى تدخل الدولة في مختلف اوجه النشاط البشرى تحقيقا لمصالح معينة ارتفعت تلك المصالح إلى مرتبة المصالح العامة مما يترتب عليها اتساع فكرة النظام العام تبعا لتزايد تلك المصالح أو اتساعها.ومن ثم فالخطورة الماثلة هنا تتأتى من كون تفسير هذا القيد سيكون رهنا بنوع النظام الحاكم وتوجهاته الايديولوجية، وهو ما لم يتضح حتى هذا الوقت. وبشكل عام فان صياغة المادة تجعل حرية التعبير مكفولة ضمن حدود الاخلاق العامة والنظام العام, وهو ما قد يعني عدم ضمانها تماما، وذلك لان جميع القيود على حرية التعبير يمكن تبريرها بحماية الاخلاق العامة او النظام العام.

* لكن هذه المخاوف المطروحة هي من قبيل المخاوف النظرية فلم يثبت حتى اليوم تفسير او شيء يثبت ما ذكرت؟
- ما يحدث في الواقع الان يرسم مستقبل ما يحدث وسيحدث. فنحن نعيش اليوم في ظل غياب الدولة، ولكن يمارس علينا ما يمكن تسميته برقابة الامر الواقع ففي بلد تعمه الفوضى ويسيطر عليه شبح العنف وتمارس فيه الميليشيات والجماعات المسلحة رقابة الحكم الواقع تبدو كفالة الدولة للحقوق وفي مقدمتها حق الرأي والتعبير محض افتراض لا سند له في الواقع، مما يجعل من الحقوق كافة مجرد أيقونات في متحف الدستور المكتوب. بل ان القيود والرقابة الموضوعة على حق التعبير وهي من قبيل القيود والرقابة الواقعية تمسخ هذا الحق من مضمونه وتنزل بمستوى المهنية وممارسة الرأي الى لعبة التصنيف الطائفية والجهوية الى حد يصبح فيه انتهاج الحياد والموضوعية والقراءة العقلانية للاشياء والاحداث نوعا من المروق يجعل من حرية الرأي و التعبير ممارسة انتحارية. وقد ذهب أحد الفقهاء الدستوريين الفرنسيين الى ان الدستور لا يعد دستورا ما لم تضعه في الجيب، وذلك للدلالة على قوة الدولة الضامنة لعلوية الدستور وانك بالامكان ان تخرجه من جيبك متى تشاء لتحاجج أي ممثل للسلطة عند انتهاك حقوقك. وما يحدث في الواقع هو ان أي خارج على القانون في الشارع يستطيع ان يدوس الدستور بقدميه دون عقاب. كما انه يستطيع ان يطلق عليك الرصاص لمجرد اختلاف في الرأي.

يتبع