بين مطرقة الحزب الواحد... وسندان الأحزاب المتعددة

إعداد صفاء ذياب من بغداد: فوجئ أستاذ النحو في كلية التربية في الجامعة المستنصرية بصورة مقتدى الصدر تصرخ (لا) في وجهه وهو يدخل احد القاعات الدراسية في الكلية... ولم يكمل احتجاجه حتى حاول احد الطلاب ان يطرحه أرضاً لولا تدخل الدكتور موسى سلوم، عميد الكلية، وتخليصه من يدي الطلاب...
بعد ايام من هذه الحادثة فوجئنا بلافتة سوداء على باب الجامعة تنعى فيها مقتل الدكتور موسى سلوم على ايدي أشخاص مجهولين بالقرب من منزله في منطقة البياع.
هذا نموذج بسيط لما يحدث داخل الجامعات العراقية من إرهاب حقيقي، والإرهاب الأكبر هو صمت وسائل الإعلام على كل ما يجري بين الطلاب والاساتذة من جهة، وبين موظفي الجامعة والاساتذة من جهة أخرى... مع العلم انني حاولت الدخول بكاميرا ومسجل إلى الحرم الجامعي أكثر من مرة، إنني انني منعت بدعوى القوانين الجديدة التي تطبق في الجامعة، حتى انني لم استطع تصوير أي مظهر من مظاهر الجامعة وعلاقة الطلاب مع بعضهم، وفي الوقت نفسه خوف أكثر الطلاب والاساتذة من الحديث عن موضوعات كهذه... فاضطررت ان ألتقي ببعض الأساتذة والطلاب الذين أعرفهم ويثقون بي، والبعض منهم طالبني بعدم ذكر اسمه لخوفه من الميليشيات والاحزاب الدينية التي تتحكم بالجامعة.
يقول الدكتور علي المرهج، أستاذ في كلية الآداب الجامعة المستنصرية قسم الفلسفة:

علي المرهج
نلمس الآن اتجاهات كثيرة في الجامعات العراقية، فبعد أن كانت الجامعة أسيرة الحزب الواحد والنظام الشمولي، أصبحت الآن أسيرة أحزاب متعددة متمثلة بتوجهات الطلبة والأساتذة، بل وحتى الموظفون الذين لا يألون من ممارسة نشاطاتهم الحزبية داخل الحرم الجامعي...
ونشاط الحركات الدينية واضح جداً، فأضحى واضحاً لدى الجميع مقتل العدد الكبير من الأساتذة والطلبة. ونرى أيضاً تدخل الحركات الإرهابية من أجل إيقاف الحركة العلمية في الجامعة. لذا يجب فتح باب الحوار بين الجامعة والأحزاب من جهة وبين الجامعة والحكومة العراقية لوقف تدخل هذه الاحزاب والحركات الدينية... ولا ننسى الانفلات الأمني بشكل عام في الشارع العراقي وتأثيره الكبير على جميع المرافق العلمية والثقافية... وإتباع الأستاذ تحديداً طريقة التلقين والتوجيه بدلاً من توجيه الطلبة علمياً وأكاديمياً.

* ومن أجل قراءة المشهد الجامعي الثقافي والفكري، سألنا الدكتور ناظم عودة، أستاذ الادب الحديث في جامعة بغداد، عن تأثير حركة الاحزاب الدينية والسياسية على عقل الطالب وطريقة تدريس الأستاذ تبعاً للمخاطر التي يعيشها الاثنين معاً:
- لا يمكن أن ننكر وجوداً نشيطاً للأحزاب والتيارات السياسية في الجامعة العراقية. وهذه الحقيقة، التي يؤكدها كل منتسبي الجامعة أساتذة وطلاب وموظفين، إنما هي سبب مباشر لتدني المستوى العلمي، وبروز ظواهر غير صحيحة في الحرم الجامعي.
إن اغتيال العديد من الأساتذة والطلاب وبعض من يشغل مناصب إدارية رفيعة، هو أحد التجليات البشعة لهذه الهيمنة الجديدة. ولعل الأخطر من هذا، هو الاعتداء على منزلة الأستاذ الجامعي من قبل موظفين ينتمون إلى أحزاب بعينها، أو من قبل طلاب ينتمون كذلك.
لقد سبب تدخل الأحزاب وميليشياتها التي تتخفى بازدياد الوظيفة أو التعليم، اضطراباً في العملية التدريسية ذاتها، فتحولت المحاضرة إلى نوع من الحرب بين الطالب والأستاذ، وانعكس هذا بدوره على انخفاض في مستوى التحصيل العلمي للطالب. ولعل الأخطر من هذا، هو الهيمنة الأيديولوجية لهذه الأحزاب على النشاط الثقافي في الجامعة، الذي كان نشاطاً

ناظم عودة
مستقلاً، يرفد الثقافة العراقية بالعديد من الكتاب والأدباء والباحثين المؤثرين، أما الآن فتحولت الثقافة داخل الجامعة إلى ثقافة طقسية، معدّة للاستهلاك، وفي أحيان كثيرة تكون مناسبة لإثارة بعض المشاكل بين الطلبة أنفسهم.
إن الرؤية المستقبلية لوضع الجامعة في ظل هذا التدخل، تبدو أمراً مرعباً، ولذلك فإن المخرج الحقيقي لهذه الأزمة (الثقافية، والسياسية، والاجتماعية أيضاً) هو أن تكون الجامعة مكاناً مستقلاً، ومخصصاً لنيل العلم، وممارسة الثقافة، وتخرج دفعات من الخريجين المؤثرين في المجتمع وتكوينه العلمي والثقافي.
وينبغي التذكير، ونحن بصدد الحديث عن التدخل في أمور الجامعة، إن النظام الإداري والعلمي للجامعة العراقية، يحتاج إلى مراجعة دقيقة، يشترك فيها المختصون والقانونيون والأساتذة والطلاب لرسم سياسة علمية وثقافية وقانونية تستند إلى مرجعية دستورية تحمي الطالب من الاعتداء المعرفي والثقافي، وتحمي الأستاذ في ممارسة حريته في طرق أية موضوعات ذات محمول علمي أو تاريخي من دون أي حرج أو مضايقة.
إن الجامعة هي الوجه الحضاري للبلد، ومقياس نهضته وتطوره، فإذا ما أردنا لهذا الوجه أن يكون دائم النضرة، فيلزم ان نغذيه غذاءً ناصحاً، الذي يستمده من حرية الطالب والأستاذ ومن التزود بأجود العلوم والمعارف والثقافات.
تحرير الجامعة من الهيمنة الحزبية، إنما هو تحرير للعقل العراقي من المؤسسية الحزبية التي تدجن العقل.

* في حين ينظر صلال عبد الهادي، طالب دراسات عليا في جامعة النهرين، إلى أثر هذه الأحزاب على الاكاديمية الجامعية، وتهميشها مقابل الصبغة السياسية:
- من الممكن أن يلاحظ أي شخص يدخل الحرم الجامعي تأثير الأحزاب في داخل الجامعة، متمثلة بالأستاذ المسيس... بمعنى آخر نرى اضمحلال الصبغة الأكاديمية وسيادة الصبغة الدينية إذا كانت شيعية أو سنية. فنرى الطلبة منقسمين فيما بينهم انقسامات شتى، حتى بدأنا نقرأ لافتات تمثل الجهة (....) الإسلامية الفلانية، ولافتة أخرى تمثل جهة أخرى، وغياب واضح للحركات الليبرالية الطلابية داخل الوسط الجامعي... وبدأنا الآن نتأكد من أن هذه الحركات مدعومة مسبقاً من الحركات السياسية والإسلامية المعروفة في العراق، ومن ثم يكون الطلبة المنتمون إلى هذه الحركات خطرة جداً، مما بدأ يتوضح لدينا خوف الأساتذة من هؤلاء الطلبة مما شكل عامل ضعف كبير في العلاقة بين الأستاذ والطالب، فبدأ الأستاذ من أجل الإبقاء على حياته إنجاح أكبر عدد كبير من الطلبة على حساب المستوى العلمي. وهناك بعض الأساتذة ينتمون هم أيضاً إلى هذه الأحزاب وهذا يزيد

سعدون محسن ضمد
من الهوة بين الطالب والأستاذ. مما أدى بتغير طريقة البحث العلمي لدى الأستاذ وتحويل مادته إلى مادة تلقينية بعيداً عن البحث والاجتهاد، ومن اجل أن لا يدخل في ارباكات واضحة مع الطلبة بدأ يستنسخ أغلب محاضراته ويوزعها على الطلبة وتتحول قاعة الدرس إلى إرشادات بعيدة عن المنهج العلمي.

* تحول الثقافة الجامعية إلى ثقافة ميليشيات يدرجها سعدون محسن ضمد، طالب في كلية الآداب الجامعة المستنصرية، ورئيس تحرير مجلة مدارك، ضمن القائمة الإرهابية التي يحاول السياسيون ادخالها للعراق من خلال اكبر منفذ يؤثر على الشارع العراقي، وهو الجامعة العراقي، فيقول:
- تشترك عدة مرتكزات في إنتاج هذا الفعل، فالثقافة العامة تحولت إلى ثقافة عنف، أو أستطيع تسميتها بالثقافة الميليشياتية، خصوصاً وإن اغلب الطلبة هم في سن المراهقة أو ما زالوا على أطرافها، وفي هذه السن يسهل استثارتها ودفعها للدخول في الحماسة الدينية أو المد التكفيري، ومن ثم سوف يطغى سلوكهم العنفي على مشهد الجامعة... فمثلاً كلما مرت مناسبة دينية ما تسيطر الميليشيا الأقوى أو ذات المد الأوسع في الجامعة على الاحتفالات والشعائر أو من خلال تظاهرات خاصة بها... فقد أغلقت القاعات الدراسية في الجامعة المستنصرية في الشهر الماضي بسبب حدث طرأ على أحد الأحزاب الدينية داخل الجامعة.
تنقسم هذه الحالات إلى مفردات عديدة، يمكن أن نبدأها بمفردة الطلبة، وهم الشباب الثوريون في أغلب الوقت، واشتراك المؤسسة الجامعة في هذه الحالة بسبب خوف الإدارة الجامعة وأقسامها من الميليشيات والطلبة أنفسهم... كقتل الأساتذة أو محاصرتهم، وتلكؤ الدراسة خلال هذه السنة الدراسية بسبب كثرة الاحتفالات الدينية التي تستمر لأيام في بعض الأحيان. فأرى أن على وزارة التعليم العالي والجامعة نفسها أن تثبت حضورها والسيطرة على الوضع من خلال اتحادات الطلبة التي اغلب انتخاباتها غير نزيهة تماماً، ويغلب عليها الطالب الانفعالي والعاطفي. فعلى الوزارة دعم الأساتذة ومحاولتها إعادة هيبة الأستاذ الجامعي إلى وضعها السابق.
النقطة الثانية صمت الإعلام تجاه ما يحدث داخل الجامعات العراقية، وخصوصاً جامعتي بغداد والمستنصرية... وحتى أنا نفسي لم أسمِ الأشياء والأحداث بأسمائها خوفاً من الدخول في معترك لست قادراً على مواجهته.

* ويقرأ أحمد الكربلائي... طالب دكتوراه وخريج جامعة كربلاء، تدهور الجامعة من خلال تدهور الجامعة العراقية، لهذا ينظر إلى سيطرة الحزب الواحد السابق من خلال عدم قبول الاحزاب الدينية بالتعددية والانفتاح الاجتماعي في الشارع العراقي:
- تشير الجامعات بشكل عام لتدهور بالمستوى التعليمي والإدراي فيها... وأخطر عنصر يؤشر على هذا الموضوع هو تدخل القوى السياسية في الجامعة وتسييها، ومن ثم التضييق الواسع لهذا الفضاء العلمي الكبير الذي يفترض به ان يشكل عقلية منفتحة لإنسان يريد أن يكون واعياً لمستقبله. ولكن يبدو ان هذه الحركات لا تستطيع ان تستوعب مثل هذه التعددية أو هذا الانفتاح، وتريد أدلجة كل طالب حسب نظرها لأنه ترى فيه المستقبل القريب فتحاول ان تخندقه، فبدلاً من ان يخرج هذا الطالب لفضاء مفتوح تحت سماء الفكر الصافية يراد له ان يتخندق بقبور حتى وان تغطت بغطاء فكري ايديولوجي، ولكنها تبقى خنادق وقبور لا أكثر.. ونحن سئمنا حياة الخنادق ونبحث عن فضاءات مفتوحة تحت الشمس لأن أكثر الاحزاب العراقية، وخصوصاً الدينية منها تخاف من الشمس لأنها تكشف عوراتها! وهناك أمثلة كثيرة على تدخل ميليشيات معينة: فمثلاً في الشهر الماضي تم منع اقامة حفلات التخرج في جامعة كربلاء بحجة ان الغناء والرقص من المحرمات ولا يجب على العراقيين الاحتفال سوى بذكر القرآن أو الاناشيد الدينية... تصور انهم يحرمون الطلبة من الاحتفال بتخرجهم بعد تعب وجهد طويل امتد لأربع سنوات أو أكثر.
لذلك ندعو بقوة لكل من له القدرة على التدخل لحماية هذه المؤسسات بقوة القانون، حيث يجب علينا المطالبة بتشريع قانون من المجلس الوطني بعدم السماح للأحزاب والميليشيات بالتدخل في سلوك الطلبة واساتذة الجامعات... وإذا كان البرلمان الآن يطالب بأن تكون وزارتا الدفاع والداخلية مستقلة وغير مسيسة، فنحن نطالب بأن تكون وزارتا التربية والتعليم العالي بعيدة عن المحاصصة الطائفية والتسيس.

* وعلى عكس أغلب الأكاديميين العراقيين بنظرتهم للجامعة العراقية السابقة، يرى أثير عادل... ماجستير لغة عربية، جامعة بغداد، ان تأسيس الجامعة في العراق بني على أسس خاطئة منذ البداية، فيقول:
- اعتقد ان الجامعة العراقية منذ تأسيسها في العراق لم تكن قد أسست بطريقة تجعلها مستقلة وذات تقاليد عريقة وأسس متينة تبعدها عن التيارات السياسية وتجعلها مستقلة بهيئاتها وكلياتها ومراكز بحوثها، فولدت الجامعة العراقية ضعيفة وهشة، وكانت دائما تستورد من المجتمع سيئاته ولا تقوم بدور تنويري بحيث تكون فاعل أساسي في المجتمع تضخ فيه المفهومات ولغة الحوار والروح العلمية، وكان الأمر خلاف ذلك، فكانت الجامعة العراقية مستودعا لكل التيارات السياسية المتناحرة فكان اختراق الجامعة امراً سهلا جدا من قبل السياسيين اذا كانوا ينتمون لأحزاب علمانية أو دينية. والظاهرة الموجودة حالياً وهي وجود قوى سياسية، لنقل انها دينية تحديداً، سنية وشيعية على حد سواء، هي ظاهرة ليست بالجديدة. وأفضل سبيل لتكون الجامعة العراقية مستقلة فكرية تماماً وهي من تصدر الأفكار للشارع أن يعاد النظر بتأسيسها بالكامل ويعاد تشريع القوانين ووضع الخطط الكفيلة بإقامة جامعات عراقية علمية، وليست كما هي عليه الآن والتي لا اشبهها سوى بكونها مدرسة ابتدائية متورمة.

* إذاً، لم ندخل الجامعة، وبقينا ندور حول أسوارها، ننتظر خروج الطلبة والأساتذة، إلا أننا فوجئنا بأن الطالبة الجامعية العراقية لا تستطيع ان تدخل للجامعة من دون حجاب... ومع هذا ما زلنا نسمع صراخ السادة السياسيين بالحرية التي يريدونها للشاعر العراقي، وتخليص المرأة من عبوديتها التي يحاولون تجديدها، ولكن على طريقة العصور المظلمة...