يهدد داعش بتفكيك العراق كما يعرفه العالم، وبتحويله دويلات طائفية وقومية منغلقة، من خلال ممارساته التهجيرية لمكونات أساسية كانت مندمجة في مجتمع واحد.&
&
إعداد عبد الاله مجيد: على امتداد آلاف السنين، كان العراق من أكثر بقاع الشرق الأوسط تنوعًا بالأديان والأعراق، وتزخر مدنه وقراه بشواهد الحضارة البابلية ومعالم الحضارة الاسلامية وقلاع الغزاة الأجانب وكنائس المسيحيين ومعابد اليهود الأوائل.

تقويض فكرة الهوية

يخشى العراقيون أن هذا الثراء الحضاري المتنوع مهدد الآن بالضياع، إذ تعرضت التركيبة السكانية للمجتمع العراقي منذ الغزو الاميركي في العام 2003 إلى تغييرات سببها السياسات الطائفية وما اقترن بها من اعمال عنف، طالت في المقام الأول اختلاط العراقيين على اختلاف مذاهبهم وأديانهم في مناطق سكنية واحدة.

ولعل صعود تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) وجه ضربة مميتة إلى هذا التنوع لم يعرف المجتمع العراقي مثيلًا لها منذ قرون، إذ ارتكب مسلحوه اعمال ابادة وتهجير واستعباد بحق العراقيين من مختلف المكونات، سنة وشيعة، وايزيديين ومسيحيين، تركمانًا وأكراداً.

ويحذر خبراء من أن آثار هذه الحملات تتعدى إنهاء التنوع الثقافي والمذهبي للمدن العراقية، وانها يمكن أن تغرس بذرة نزاع دائم على هذه الأرض النازفة بفصل مكونات العراق المذهبية والقومية وعزلها عن بعضها البعض. وأعرب مثقفون عراقيون عن خشيتهم من ظهور جيل من العراقيين السنة والشيعة، لا يعرفون الكثير احدهم عن الآخر وعن تاريخهم المشترك، وبذلك تقويض فكرة الهوية العراقية ذاتها.

من لون واحد

قال الروائي العراقي احمد السعداوي، الفائز بجائزة بوكر العربية، "إن الهوية العراقية ستتغير وستكون مشوهة وناقصة". وأخذ السعدواي مراسل صحيفة واشنطن بوست في جولة داخل حي قديم وسط العاصمة بغداد، هو حي البتاوين، لإعطاء فكرة عما يعنيه فقدان الهوية الوطنية. فالحي اصبح اليوم ملاذًا لفقراء مهجرين لا هوية لهم بعدما كان منطقة يتعايش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود جنبًا إلى جنب.

وبعد اجتياح داعش مناطق شاسعة من شمال العراق في حزيران (يونيو) الماضي، نزح عراقيون من المسيحيين والايزيديين بأعداد كبيرة إلى المناطق الكردية، ويقول بعض النازحين أنهم يريدون الهجرة إلى الخارج بلا عودة.

وأعرب الكاتب العراقي حامد المالكي عن خوفه من أن العراقيين الذين بقوا في المناطق الخاضعة لسيطرة داعش سيكونون، بعد حملات التهجير التي ارتكبها، عراقيين "من لون واحد"، مشيرًا إلى إخلاء المناطق السنية من مواطني المكونات الأخرى. وتصبح المناطق الشيعية ايضًا متجانسة طائفيًا، مع استقبال اعداد متزايدة من المهجرين، وتكون أشد تطرفًا بتأثير الحرب. وقال المالكي: "ما أخافه هو أن ينشأ جدار عنصري".&
&
جدران نفسية

وفي الواقع أن جدرانًا نشأت في بغداد، إذ نزح آلاف العرب السنة هاربين من المناطق ذات الأغلبية الشيعية، فيما نزح الشيعة من المناطق ذات الأغلبية السنية خلال اعمال العنف الطائفي التي اعقبت الاحتلال الاميركي وخاصة في العام 2006 ـ 2007.

وأنشات قوات الاحتلال الأميركية وبعدها حكومة بغداد التي سيطرت عليها احزاب شيعية اسوارًا من الخرسانة لتطويق الأحياء بدعوى حمايتها. وكثيرًا ما يضطر سكان هذه الأحياء المسورة إلى اعلان ولائهم لميليشيات محلية. وتمددت هذه البلقنة أبعد من بغداد خلال الأشهر الثلاثة الماضية.

ومنذ سيطرة داعش على الموصل لم يعد فيها مسيحيون أو ايزيديون أو شبك أو شيعة. وفي تموز (يوليو)، فجر مسلحو داعش عشرات المساجد والأضرحة بينها جامع النبي يونس داخل الموصل. وفي غرب المدينة، نزح الايزيديون من جبل سنجار موطنهم التاريخي، وهم الآن يبحثون عن ملاذ خارج العراق.

وفي شمال غرب الموصل، هرب الشيعة من مدينة تلعفر التي تطل عليها قلعة غابرة القدم وكانت تاريخيًا موطن العراقيين التركمان الذين بينهم كثير من الشيعة. وما حدث في تلعفر تكرر في بلدات وقريات أخرى في محافظتي صلاح الدين ونينوى.

تدمير الثقة

ما زال أحمد ابراهيم، الذي هرب من تلعفر مع عائلته في حزيران (يونيو) الماضي يتصل بجيرانه السنة للاطمئنان على بيته الذي أخذوا على عاتقهم حمايته. وقال ابراهيم لصحيفة واشنطن بوست أن جيرانه ابلغوه بأن الحي الذي كان يسكنه هو الآن "مدينة اشباح" مشيرين إلى أن مسلحي داعش نهبوا بيوت الشيعة في تلعفر ثم دمروها.

في هذه الأثناء هُجر عراقيون سنة بأعداد كبيرة ايضًا من مناطق أخرى. وفي قرية آمرلي التركمانية ذات الأغلبية الشيعية لم يعد هناك سنة.

من جهة أخرى، رحل العرب عن مخمور وغيرها من البلدات الواقعة في مناطق ذات اغلبية كردية حيث تعمقت الشكوك بين الكرد إزاء العرب الذين تعايشوا معهم طيلة السنوات الماضية. وقال مايكل نايتس، الخبير بشؤون العراق في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: "تدمير الثقة مشكلة حقيقية قد يكون لها تأثير دائم".& ولاحظ أن كثيرين من النازحين قد لا يريدون العودة أو لن يكون بمقدورهم العودة بعد انتهاء النزاع الحالي.

مليون كنيسة ومعبد

في بغداد، يقدم حي البنتاوين شهادة على عصر مضى. وقال الروائي السعداوي "إن هناك مسجدًا واحدًا في البتاوين ولكن هناك مليون كنيسة ومعبد يهودي". ثم أخذ يشق طريقه بين أكوام الانقاض وبيوت يسكنها الآن مسحوقون من أهل العراق، فيما كان برج كنيسة قديمة ينتصب في نهاية الشارع.

استوحى السعداوي حي البتاوين في روايته "فرانكشتاين في بغداد" التي فاز عليها بجائزة بوكر العربية بسبب الفقر والبيوت المتداعية واشباح الماضي. ويأتي وحش الرواية المصنوع من اعضاء بشرية مختلفة للاقامة بين انقاض بيت خرب.

ومثلما يتذكر السعداوي سكان حي البتاوين من اليهود يخشى العراقيون أن يأتي يوم يتذكر فيه سنة الموصل وتلعفر ومدن أخرى في شمال العراق ووسطه ايام كان ايزيديون وشبك ومسيحيون وشيعة ومسيحيون يسكنون ازقتهم ويتذكر اهل الجنوب ايام كان بينهم عراقيون من العرب السنة وعراقيون من الكرد السنة. ويخشى العراقيون من أن يأتي يوم يقولون فيه للزائر "هنا كان يسكن الشيعة أو هنا كان يسكن السنة".