بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بحثت أوكرانيا عن معيل، وهي اليوم تدفع ثمنًا سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا لخياراتها.

بيروت: يشيع في العالم اليوم أن الغرب تلقى الصفعة الروسية في سوريا، ورد الصاع صاعين في جوار القيصر الروسي، في أوكرانيا التي لم يكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعرف أنها خاصرته الرخوة. لكن هناك وجه آخر لكل أزمة سياسية، هي الأزمة الاقتصادية، إذ وضع المستثمرون حالة عدم الاستقرار الأوكراني على بساط البحث الاقتصادي العالمي. وهذا مهم جدًا، لأن الحالة الأوكرانية تصل بين الاضطراب السياسي الحاصل في كييف، وبين التأثير الاقتصادي الناتج مما تتمتع به أوكرانيا من موقع استراتيجي، كقناة اتصال بين روسيا وأوروبا.

من المعيل؟

إبان العهد السوفياتي، كانت أوكرانيا ملحقة بموسكو، تلبي احتياجاتها من القمح، وتدور في فلكها السياسي والعسكري، في حرية شكلية. خلال العهد الغورباتشوفي، الذي انتهى بسقوط الاتحاد السوفياتي وتفككه، لم يكن الاقتصاد الأوكراني يملك اي رؤية خاصة، فأصابه الضعف العام، وبدأ يبحث عن معين، أو بالأحرى عن معيل. ومن هنا نشأت الأزمة، فمن الأوكرانيين من يريد روسيا معيلًا، ومنهم من يريد الاتحاد الأوروبي.

بالنسبة إلى روسيا، الأمر جلي، أما بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، فالسؤال اليوم: quot;ماذا تريد أوروبا من أوكرانياquot;؟

في المقام الأول، أوكرانيا جسر عبور أوروبا إلى شبه القارة الروسية، وروسيا إلى الأسواق الأوروبية. فالروس لا يتحكمون كثيرًا باقتصاد كييف، لكنها في قبضتهم جغرافيًا، لأن روسيا تزود أوروبا بربع حاجاتها من الغاز، ونصفها يضخ في أنابيب عبر أوكرانيا. ومتى قررت موسكو قطع إمداد أوروبا بغازها، فإنها سترفع أسعار الطاقة، وهي فعلتها من قبل.

ثمن للدفع

الروس دخلوا شبه جزيرة القرم، لأنها لم تكن يومًا اوكرانية. وهم يهددون النظام الجديد في كييف، ما قد يجر عقوبات على روسيا، تقرها أكبر 10 اقتصادات في العالم. فوزير الخارجية الأميركي جون كيري قال أمس الأحد إن الولايات المتحدة ترغب في درس إقرار عقوبات على موسكو، والرئيس باراك أوباما يدرس كل الخيارات المتاحة أمامه.

وهذا يلتقي مع تساؤلات روسية حول ثمن سيدفعه بوتين بالتأكيد مقابل تحركات روسيا العسكرية في القرم، لأن روسيا زادت من ارتباطها الوثيق بالاقتصاد العالمي، ووجهت نصف تجارتها نحو الاتحاد الأوروبي، وتعيش اليوم على الواردات الأوروبية.

إلى ذلك، برز احتمال تأثر التجارة العالمية والأوروبية بمجريات الأحداث في كييف، خصوصًا إن ما أثرت الأزمة السياسيةفي إمدادات الحبوب العالمية. فأوكرانيا من أكبر مصدري الذرة والقمح في العالم، ما يطرح احتمال ارتفاع أسعار هاتين السلعتين الأساسيتين.

الديون الثقيلة

لو لم تكن أوكرانيا في ازمة أقتصادية فعلية، لربما مرت الأزمة السياسية من دون تضخيم. فالحكومة الأوكرانية غارقة حتى أذنيها في أزمة ديون، تتجاوز عتبة 13 مليار دولار هذا العام، إلى 16 مليار دولار ينبغي دفعها قبل نهاية العام 2015.

وتنقل شبكة سي أن أن الأميركية عن المحلل الاقتصادي لوبومير ميتوف قوله إن أوكرانيا تحتاج للأموال لتتجنب الانهيار الكامل، ويزداد الأمر سوءًا مع إعلان روسيا تجميد 15 مليار دولار بعد الإطاحة بالرئيس الأوكراني حليف روسيا.

آمال الأوكرانيين اليوم معلقة على خشبة إنقاذ، يرميها صندوق النقد الدولي. فقد أعلنت كريستين لاغارد، مديرة الصندوق الدولي، أن الصندوق يناقش مع كبار مساهميه كيفية توفير 35 مليار دولار لكييف إذا عبرت عن حاجتها لذلك، بعد عودة الاستقرار للبلاد.

واوكرانيا ليست السوق الناشئة الوحيدة التي تمر في اوقات عصيبة، وهذا يقلق الأميركيين، ويدفع المستثمرين إلى صرف النظر عن استثماراتهم، إذا شكّوا في بطء النمو في هذه الأسواق.

روسيا عاجزة

وكان الكاتب البريطاني كون كافلين قال إن روسيا عاجزة عن تحمل الكلفة الاقتصادية لأي عمل متهور تقوم به في أوكرانيا، يضعها موسكو في صدام مع الغرب. وأشار في مقال نشرته صحيفة ديلي تليغراف البريطانية الأحد إلى ندم الروس على سخاء السوفياتي نيكيتا خروشوف في العام 1954، حين أهدى القرم لأوكرانيا، ولو أتى فعل ندامة على مقتل ملايين الأوكرانيين بسبب المجاعة الكبرى التي سببها الزعيم جوزيف ستالين.

وأضاف: quot;لم يكن صعبًا معرفة أسباب اهتمام روسيا بتسارع الأحداث في القرم عقب الإطاحة بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتس، فنحو 60 بالمئة من سكان القرم مواطنون روس يرغبون في الانفصال عن أوكرانيا والعودة إلى وطنهم روسياquot;.

وأكد كافلين أن موسكو ترغب في تأمين قاعدتها البحرية في مدينة سيباستوبول بالقرم، لتكون نافذة إضافية لاقتصادها على البحر، استيرادًا وتصديرًا، تمامًا كما الدعم غير المحدود الذي تمنحه روسيا للنظام السوري، من أجل حماية قاعدتها العسكرية في طرطوس بالبحر المتوسط.