تصاعدت أزمة دير الأنبا مكاريوس في وادي الريان في مصر، بسبب رفض الرهبان خطط الحكومة شق طريق ينتزع أجزاء منه، وتعقدت الأزمة في ظل تبرؤ البابا تواضروس والكنيسة الأرثوذكسية من الدير وبعض رهبانه، الذين أصرّوا على موقفهم الرافض لمرور الطريق، وأعلنوا اعتصامهم أمام الدير. فيما وقعت معارك بالأسلحة البيضاء بين الرهبان، أسفرت عن إصابة اثنين منهم بجروح.
صبري عبد الحفيظ من القاهرة: ظهرت بوادر أزمة طائفية في مصر بين بعض رهبان دير وادي الريان من جانب، والكنيسية الأرثوذكسية والحكومة المصرية من جانب آخر، بسبب شق طريق في أراضي الدولة، التي يسيطر عليها بعض الرهبان بشكل غير قانوني.
يعود تاريخ الدير إلى القرن الرابع الميلادي، وظل مهملًا قرونًا أخرى، حتى كان عام 1960، لجأ إليه الأب متى المسكين، عندما تعرّض للطرد من الكنيسة وتم تجريده من رهبنته، فأعاد تعميره مع مجموعة من الرهبان، وظل معتكفًا فيه، حتى عفا البابا عنه في العام 1969. وظل الدير مقصدًا لعدد من الرهبان المغضوب عليهم، مع تعرّضه للإهمال الشديد، وعدم إعتراف الكنيسة به.
تبرؤ وعدم اعتراف
وفي العام 1996 أعاد الراهب إليشع المقاري تعمير الدير، واستقطب بعض الرهبان، ووصل عددهم إلى نحو مائتي راهب. وفي أعقاب ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، وأثناء الإنفلات الأمني، وخوفًا على أنفسهم، أنشأ الرهبان سورًا حول الدير، بطول نحو عشرة كليو مترات، بمساحة 13 ألف فدان. وأدخلوا محمية طبيعية خاضعة لإشراف الحكومة إلى أراضي الدير، وتضم المحيمة نباتات وحيوانات وصخور نادرة.
ووقعت نزاعات بين وزارتي شؤون البيئة والسياحة من جانب ورهبان الدير من جانب آخر، في العام 2012، لاسيما مع تعطل الحركة السياحية إلى المحمية، وإصرار الرهبان على عدم تمكين السياح من الدخول إليها.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، تقدم رهبان الدير بطلب إلى البابا تواضروس للاعتراف بالدير، وشكل لجنة من المجمع المقدس لدراسة الأوضاع، وانتهت إلى عدم الإعتراف به أو ترسيم رهبانه.
صدامات كنسية
وفي سبتمبر/ أيلول 2014، أعلنت الحكومة عن شق طريق سياحي يؤدي إلى المحمية، مع هدم أجزاء من السور، الذي أقامه الرهبان في 2011. ووقعت مصادمات بين الرهبان والمهندسين والعمال المكلفين بشق الطريق، ما دفع البابا تواضروس الثاني إلى إصدار بيان بتاريخ 24 أكتوبر/ تشرين الأول 2014، أعفى فيه الراهب إليشع المقاري من الإشراف على المنطقة، وتبرأ فيه من بعض الرهبان.
وفي نهاية شهر فبراير/ شباط الماضي، وقعت مصادمات بين الرهبان ومسؤولين وعمال من الحكومة أثناء محاولتهم شق الطريق، وردت الكنيسة بالتبرؤ من الدير ورهبانه.
وقال البابا تواضروس الثاني في بيان له إنه عقد اجتماعًا مع اللجنة المسؤولة عن مشكلة الدير الأنبا مكاريوس في وادي الريان، وأضاف أن نتائج الإجتماع أسفرت عن أن "وادي الريان منطقة محمية طبيعية، سكنها قديمًا عدد من النساك والمتوحدين، وحديثًا حاول البعض إحياء الحياة الرهبانية فيها على أرض لم يتملكوها قانونيًا، ولم يصدر فيها اعتراف كنسي حتي الآن".
أضاف: "عندما قررت الدولة إنشاء طريق ضمن خطة مشروعات التنمية القومية في مصر، اعترض بعض الساكنين هناك، وبصورة غير لائقة، أمام المهندسين ومعداتهم، ولم يكن هذا موقف الكنيسة الرسمي، ولأهمية الموضوع شكلت الكنيسة القبطية لجنة من ثلاثة أساقفة للمتابعة منذ ستة أشهر، كما استبعدت الراهب المسؤول، وتبرأت من اثنين من الساكنين، والذين انتحلوا صفة "راهب"، كما بذلت اللجنة محاولات عديدة لإثنائهم عن هذا العناد، ولكن من دون جدوى".
انتزاع القدسية
وتبرأ البابا تواضروس الثاني من الدير، وقال: "الكنيسة تعلن أن هذا المكان ليس ديرًا كنسيًا معترفًا به حتى الآن، كما تخلي مسؤوليتها، وتعلن أن للدولة الحق القانوني في التصرف مع هذا الموضوع، مع مراعاة الحفاظ علي الطبيعة الأثرية والمقدسات والمغائر والحياة البرية في هذه المنطقة".
وأدانت الكنيسة ما وصفته بـ"تجاوزات" الرهبان، وقال البابا: "إذ تدين الكنيسة بشدة كل هذه التجاوزات، ترجو من شعبها عدم التجاوب مع المغالطات التي يتداولها البعض بصورة خاطئة، وبمعلومات غير صحيحة، والتعاطف مع هؤلاء الأشخاص من دون التأكد من الكنيسة الرسمية لمعرفة الحقائق الدقيقة".
كما تبرأت الكنيسة من المشرفين على الدير، وقال البابا في بيانه: "كما نستنكر هذه التصرفات التي صدرت بغير حق، ولا تمثل نهجًا رهبانيًا، والذي يقوم أساسًا علي الطاعة والفقر الاختياري، وتعلن الكنيسة أنها تتبرأ من كل من ماهر عزيز حنا (المدعو بولس الرياني) وعبده إسحق جوهر (المدعو دانيال الرياني) ورامي إبراهيم خير (المدعو تيموثاوس الرياني) ووائل فتحي نجيب (المدعو إثناسيوس الرياني) وجرجس راضي موسى (المدعو مارتيروس الرياني) وياسر صلاح عطية (المدعو غريغوريوس الرياني).
محاولات فتنة
وقال المتحدث باسم الكنسية الأرثوذكسية، القس بولس حليم، لـ"إيلاف" إن الدير غير معترف به كنيسًا، مشيرًا إلى أنه رغم قدمه، إلا أنه لا تتوافر فيه الشروط الكنسية والقانونية. ولفت إلى أن الدير مقام على أراضي مملوكة للدولة. ونبه إلى أن الكنيسة تبرأت من بعض الرهبان، الذين أثاروا المشاكل، ودخلوا في صدامات مع الدولة، وحاولوا إثارة معلومات مغلوطة، من أجل إثارة أبناء الكنيسة، معتبرًا أن غالبية الرهبان في الدير أعلنت خضوعها للكنيسة، ولم تعترض على شق الطريق.
في المقابل، وقعت انشقاقات في الدير، ورفض الراهب أثناسيوس قرار البابا تواضروس الثاني، وأعلن تصديه للحكومة أثناء شق الطريق، متهمًا البابا بـ"ترديد معلومات مغلوطة"، وتوعد بأن "الرهبان لن يسمحوا بهدم السور إلا على دمائهم".
انشقاقات داخلية
فيما أعلن مجمع رهبان الدير رفضه لما وصفه بـ"التصرفات غير اللائقة لبعض رهبانه"، وقال "إن الدير غير مسؤول عن أي بيانات أو تصريحات تصدر ضد الكنيسة ورئاستها من خلال وسائل الإعلام"، داعيًا "شعب الكنيسة إلى ألا ينساق وراء أي تصرف أو رأي شخص ما يريد أن يصنع فتنة وانقسام بين الكنيسة وأولادها.. والكنيسة لم ولن تتخلى عنهم، ولن تستطيع قوة أن تنال من وحدة الكنيسة".
واحتدمت الخلافات بين رهبان الدير، ووصلت إلى حد العراك بالأسلحة البيضاء، وأصيب اثنان منهم صباح اليوم الإثنين 16 مارس/ آذار الجاري، ونقلا إلى مستشفى الفيوم العام، لاسيما في ظل رفض البعض منهم الخضوع للكنيسة، والتصدي لعملية شق الطريق.
وقال مصدر كنسي لـ"إيلاف" إن البابا تواضروس طلب من مساعديه التواصل مع الحكومة والأجهزة الأمنية، واتخاذ الإجراءات القانونية ضد الرهبان، الذين تعرّضوا للشلح، مشيرًا إلى أن الكنيسة تعتبرهم أشخاصًا عاديين خارجين عن القانون.
ونفى المصدر تخلي البابا تواضروس أو الكنيسة عن الرهبان، وقال إن الكنيسة تبرأ وشلحت الرهبان مثيري المشاكل وغير المعترف بهم من الأساس، منوهًا بأن غالبية الرهبان أعلنت أمس الأحد في مؤتمر صحافي من مقر الدير خضوعها للكنيسة.
وكشف المصدر أن الرهبان استولوا على مساحة 13 ألف فدان، معتبرًا أنها مساحة شاسعة جدًا، وتضم محمية طبيعية، فيها كنوز من نباتات وحيوانات نادرة. ولفت إلى أنه لا يوجد دير بهذه المساحة، وقال إن الكنيسة سوف تبدأ في إجراءات تقنين أوضاع الدير مع الدولة، من خلال شراء ثلاثة آلاف فدان، وتولي تعمير الدير، منعًا لإثارة المشاكل مستقبلاً.
&
التعليقات