تدعو دراسة تحليلية حديثة الادارة الأميركية إلى إعادة النظر سريعًا في سياستها الدفاعية في الخليج، في ضوء التبدلات السياسية والعسكرية في المنطقة، ووفقًا لما تتوصّل إليه مفاوضات دول 5+1 مع إيران، حول ملفها النووي الشائك.
بيروت: الوضع المتأزم في الشرق الأوسط استدعى منذ زمن إعادة نظر جدية في استراتيجية الدفاع الأميركية في منطقة الخليج وتوزع القوى فيها، لكن هذه المسألة تأخرت، حتى انكب بلال صعب، الباحث في أمن الشرق الأوسط في معهد أتلانتيك، وباري بافل، نائب رئيس ومدير مركز برنت سكوكروفت المختص في الأمن الدولي في معهد أتلانتيك، على دراسة متخصصة لهذه الاستراتيجية، التي تبدو اليوم مأزومة نوعًا ما، في ظل السعي الأميركي الحثيث إلى عقد اتفاق مع إيران لحل مشكلة الملف النووي الإيراني العالقة منذ زمن طويل.
أميركا أبطأت
بحسب الباحِثَين، ثمة عوامل عديدة تستدعي إعادة تقييم متكاملة لمواطن القوة والضعف الكامنة في القرارات السياسية والعسكرية الأميركية في الخليج، وبينها التردد الأميركي حيال الطموحات النووية الإيرانية، وخروج الولايات المتحدة غير المخطط له من العراق في العام 2011، وعودتها إليه بعد ثلاثة أعوام، واتخاذ الرئيس الأميركي القرار الشهير بانسحاب أميركي نهائي من أفغانستان بنهاية 2016، إلى جانب التهديد الجديد، الذي يمثله تنظيم الدولة الاسلامية (داعش)، على العالم أجمع، والتأثر العميق بترشيد الانفاق الدفاعي في الموازنة الأميركية.
يرى صعب وبافل أن الادارة الأميركية أبطات في التعامل مع المتغيرات السياسية في المنطقة، بتمسكها& بمفهوم متقادم عن الاستقرار، وأن ما سينتجه الاتفاق النووي بين محموعة 5+1، وعلى رأسها الولايات المتحدة، هو المتحول الوحيد، بين الثوابت الكثيرة، الذي سيؤثر فعليًا في السياسة الدفاعية التي تنتهجها إدارة أوباما في الخليج العربي، وفي الشرق الأوسط. فإن صارت "إيران النووية" واقعًا لا بد من الاعتراف به، فهذا صفعة قوية للسياسة والأمن في المنطقة برمتها، تستدعي ترميمًا شبه كامل للأجندة الأميركية في الشرق الأوسط.
أركان السياسة الأميركية
بالمقابل، يؤكد صعب وبافيل في تقريرهما حقيقة أخرى. يقولان: "حتى لو توصل الأميركون وحلفاؤهم إلى اتفاق مع طهران حول ملفها النووي، يضمن عدم حصول طهران على سلاح نووي، تحتاج الولايات المتحدة إلى إدخال تعديلات على توزع قوتها في الخليج، كي تتلاءم مع المستجدات أولًا، وكي تطمئن حلفاءها الاقليميين إلى أن أي اتفاق نووي مع طهران لن يؤدي، باي شكل من الاشكال، إلى انسحاب أميركي من المنطقة، أو إلى أي انتقاص من أهمية المخاوف الأمنية، التي يشعر بها هؤلاء الحلفاء".
وفي تحليل للسياسة الدفاعية الأميركية في الخليج، يقول المؤلفان في تقريرهما أنها تستند إلى أركان أربعة، هي الاستباق والتطمين ومكافحة الارهاب والعمل السياسي، "وعلى الأركان الثلاثة الأولى أن تبقى عناصر أساسية في أي استراتيجية أميركية، أي الاستباق والتطمين ومكافحة الارهاب، لأنها تُحسن خدمة المصالح الأميركية طويلة المدى في المنطقة، إلا أن العمل السياسي الأميركي بحاجة إلى تطوير، لأن واشنطن لم تتعامل معه على أنه أولوية منذ زمن طويل، إذ كان تركيزها منصبًا على الاستقرار الأمني ذات المدى القصير، لذا يجب أن يتصدر أولويات اي سياسة أميركية جديدة في الخليج".
عجز داخلي
صحيح أنها أركان أربعة، إلا أن مولفَي التقرير يربطانها الواحد بالآخر، لتتكامل في ما بينها. فالوجود العسكري الأميركي في الخليج كان أساسيًا في تطمين شركاء واشنطن الخليجيين وفي تفعيل المعركة ضد المتطرفين، الذين يشكلون تهديدًا لأمن الخليج كما أمن الولايات المتحدة على حد سواء. والأسلحة الأميركية ساهمت، بشكل أو بآخر، في ردع إيران كي لا تهاجم الدول الخليجية، لكنها لم توقف إيران عن تصدير ثورتها الإسلامية إلى دول الخليج، في البحرين وشرق السعودية والكويت، وأخيرًا اليمن، أي لم تكن ذات فعالية كبيرة في تثبيت الأمن الداخلي في دول الخليج، تواكب فعاليتها في ردع الأخطار الخارجية.
يجب أن تأخذ أي سياسة أميركية جديدة في الخليج في حسبانها هذه المسألة، بغض النظر عن أي تقدم على جبهة المفاوضات الدولية مع النظام الإيراني حول ملفه النووي الشائك. وإعادة تقويم توزيع القوة الأميركية في الخليج، أو في أي مكان آخر، لا تنجح إلا بتأكيد القدرات العسكرية وتعزيزها، وعدم التهاون في الأمر حتى لو كانت القدرة العسكرية الإيرانية متدنية.
وهنا، يوضح صعب وبافا الأمر على الشكل الآتي: "حين التفكير في إعادة الانتشار العسكري الأميركي في الخليج، لا يكون السؤال "كم نزيد القوات أو كم نسحب منها؟"، بل 'أي قوة وأين ننشرها؟'، لأن التهديد الإيراني متعدد الأوجه، من خلال برنامجها النووي، وصواريخها طويلة المدى، وسلاحها الأيديولوجي في داخل الدول الخليجية، ممثلًا بأنصارها هناك، لذا على الولايات المتحدة أن تجد الميزان الصحيح بين ردع إيران من الهجوم على دول الخليج، ووقفها عن محاربة جيرانها بالوكالة، وبالتالي تأمين الأمن الداخلي في دول الخليج".&
فرضيات وتوصيات
يفترض الكاتبان صعب وبافل أن إيران تخلت عن برنامجها النووي، ووقعت اتفاقًا مع الدول 5+1، ويقولان: "حينها، تتنفس السياسة الدفاعية الأميركية الصعداء، ويكون للولايات المتحدة حينها أن تركز على إيجاد الحلول لمشكلات أخرى، في مقدمها إمكانية خرق إيران للاتفاق النووي في أي لحظة، وحينها تستطيع أميركا حماية مصالحها في الخليج، من خلال تطوير انتشارها هناك،& جغرافيًا وعملياتيًا وسياسيًا".
في هذا الاطار، يوصي المؤلفان أن تعرض أميركا على دول الخليج معاهدات متقدمة للدفاع المشترك، وأن تقلل نسبة توقع حركة القوات الأميركية في الخليج من خلال تعزيز انتشارها، وأن تؤكد المنحى البحري لوجودها هناك بتطوير دفاعاتها البحرية، وقدراتها على التدخل السريع، وإمكاناتها الاستخبارية، وأن تعزز تعاونها الأمني مع الشركاء الخليجيين، من أجل تعزيز قدراتهم الدفاعية الذاتية فيتحملوا جزءًا كبيرًا من المسؤولية في هذا الاطار، وتدعيم الأنظمة الأميركية الخليجية المشتركة المضادة للصواريخ الإيرانية.
أما إذا لم توقع إيران اي اتفاق يوقف برنامجها النووي، يقدم صعب وبافل توصيات أخرى، كاستحداث أسباب موجبة لدفع دول حلف شمال الأطلسي والحلفاء الآخرين إلى المشاركة الفعالة في تأمين الأمن الخليجي.
تصب كل هذه التوصيات، بحسب صعب وبافل، في صالح الولايات المتحدة أولًا، ثم دول الخليج تاليًا، لأنها تنذر الشركاء والأعداء على السواء من مغبة الاصطياد بالماء العكر، وتقنعهم، شاؤوا أم أبوا، بأن الأميركيين موجودون في الخليج، ولن يغادروه، ولن يخذلوه، كما تساهم في نسج شراكة عميقة وطويلة الأمد مع الشركاء الخليجيين، خصوصًا أن بعض هذه الشراكات معمّدة بالدم.
التعليقات