طالما وُصفت السياسة التي ينتهجها الرئيس الأميركي باراك أوباما بأنها رمادية ومترددة وغير قادرة على الالتزام أو الحسم تجاه عدد كبير من الملفات المعقدة، هذه الأوصاف عادت لتتعزز بعد مقابلته الصحافية الأخيرة، حيث بدا وكأن العالم برمته مؤمن بقوة أميركا أكثر من أوباما نفسه.

واشنطن: وصف مراقبون المقابلة التي نشرتها مجلة "ذي اتلانتيك" الاميركية مع الرئيس باراك اوباما يوم الخميس، بأنها تمهيد لإيداع تركته بعد ثمانية اعوام من الرئاسة، وانه رغم بقائه في البيت الأبيض حتى مطلع 2017، يعكف من الآن على تهيئة مكانه في التاريخ. واللافت في المقابلة تأكيد اوباما المتواصل على انه اختار ألا يقود، ففي عام 2012 اعلن ان استخدام رئيس النظام السوري بشار الأسد السلاح الكيماوي "خط احمر"، فرد الاسد بعبور الخط وقتل مئات من مواطنيه بالسلاح الكيماوي.

ولكن اوباما قال في المقابلة: "أنا فخور جدًا بتلك اللحظة"، مثيرا استغراب الصحافي جيفري غولدبيرغ الذي اجرى المقابلة معه، وسبب افتخاره انه خرق قواعد اللعبة التي وضعتها مؤسسة السياسة الخارجية الاميركية، وقد يكون من الصواب الخروج عن القواعد التي يضعها بيروقراطيون في مكاتب مكيفة، ولكن حين تقول هذه القواعد ان تهديد ديكتاتور بالعقاب ثم التراجع عن التهديد ينال من هيبة الولايات المتحدة ومصداقيتها امام الأصدقاء قبل الأعداء، فإن القواعد تكون صحيحة هذه المرة على الأقل. فرصة ذهبية ومنذ ذلك الحين لم يعد احد يصدق الولايات المتحدة وازداد الأسد شراسة.

كما يلاحظ الكاتب السياسي تشارلس مور، رئيس تحرير الديلي تلغراف وصندي تلغراف ومجلة سبكتيتر السابق، مشيرًا الى ان اوباما شبَّه المتظاهرين في الميادين العامة ايام الربيع العربي بالوطنيين الاميركيين الذين ثاروا على الاستعمار البريطاني، وانه دعا الأسد الى التنحي. ولكن حين رد الأسد على الدعوة بتصعيد القمع ضد المتظاهرين قرر اوباما ان يتركه سادرا في غيّه.

وانتهى المآل بادارة اوباما الى وضع ملف القضية السورية ومستقبل سوريا بيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي لا مانع لديه من قصف كل من يتفق بوتين مع الأسد على انهم من الارهابيين، بمن فيهم الوطنيون الذين اشاد اوباما نفسه بثورتهم على الاستبداد.

وبعد اعتداءات باريس، في الخريف الماضي، اثار اوباما غضب الحلفاء الاوروبيين والرأي العام الاميركي بتجاهل عربدة تنظيم داعش في اوروبا، لأنه قرر التركيز على آسيا، وحين سأله مراسل شبكة "سي ان ان" التلفزيونية لماذا لا تستخدم الولايات المتحدة جبروتها ضد داعش في سوريا حيث يعمل بالتواطؤ مع نظام الأسد، لم يلق جوابا شافيا من رئيس يرى ان محاربة النزعة القبلية أهم من مكافحة الارهاب.

وهكذا قدم اوباما فرصة ذهبية الى الزعيم الأبيض الجديد للقبلية الاميركية دونالد ترامب الذي يتقدم الآن على جميع المتنافسين للفوز بترشيح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية. وحين يعود الرئيس اوباما في العام الأخير من ولايته الثانية بأنظاره الى الوراء، يرى نواقص في جميع اصدقاء الولايات المتحدة، بمن فيهم رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، الذي كان يعتبر أقرب حلفاء اوباما، الى ان انتقده الرئيس الاميركي في المقابلة مع مجلة "ذي اتلانتيك"، محملا بريطانيا قسطا من المسؤولية عن الوضع الذي انزلقت اليه ليبيا.

اهتمامات مختلفة!

وتطول قائمة الأصدقاء الذين لدى اوباما مآخذ عليهم، بمن فيهم الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، لأنه يستمتع بفرص الوقوف امام العدسات لالتقاط صوره. وبلغ الأمر بالعاهل الاردني الملك عبد الله الثاني الى حد القول: "أعتقد أني أُؤمن بالقوة الاميركية أكثر مما يؤمن بها اوباما"، كما تنقل صحيفة الديلي تلغراف عنه. فان مصالح الولايات المتحدة ليست وحدها المتضررة، بل مصالح جميع من راهنوا على صداقتهم معها.

على النقيض من ذلك، يحصد اعداء اميركا ثمار سياسة اوباما دون ان يقدموا اليه أي شيء اعترافا بالجميل، وليس أفضل من الوقت الحالي لأن يكون الحكام سلطويين مثل بوتين أو مستبدين مثل ملالي ايران، فأبواب التفاهم مفتوحة لهم جميعًا في عهد اوباما.

وهناك ايضا اهتمام اوباما بالتغير المناخي، إذ اشار الرئيس الاميركي الى انه حين يكون منشغلا بانقاذ كوكب الأرض لا يعود لديه الكثير من الوقت للتعامل مع أمثال داعش والأسد وبوتين، ورغم اصول اوباما الأفريقية، فإن أول رئيس اميركي أسود يبدو أكثر انشغالا من أي زعيم آخر بـ "مشاكل العالم الأول"، على حد تعبير الكاتب السياسي تشارلس مور، قائلا إن "قائد العالم الحر تنازل عن قيادته منذ زهاء ثماني سنوات".

وأطلق هذا الموقف دعوات الى تقدم الاتحاد الاوروبي للمساعدة في ملء الفراغ، ولكن المشكلة ان الاتحاد الاوروبي نفسه، من دون الولايات المتحدة بقيادة تتطلع الى الأمام، يصبح حتى أكثر انكشافا للأخطار، فضلا عن انشغال اوروبا حاليا بانقاذ اليورو والتعامل مع ازمة اللاجئين وصعود اليمين المتطرف.