برلين: الخوف من الموت رافق الانسان منذ فجر الحضارة وما زال هاجسه الذي لا يفارقه طيلة حياته الواعية. وأمضى البروفيسور شيلدون سولومون استاذ علم النفس الاجتماعي في كلية سكيدمور الاميركية حياته الأكاديمية في دراسة الخوف من الموت مؤكداً أن صدمة اكتشاف خوفه من الموت حين كان طفلا في الثامنة من العمر ما زالت تؤثر في حياته بعد 50 عاماً.

رعب وجودي

وأشار البروفيسور سولومون إلى قول العالم الانثروبولوجي ايرنست بيكر بأن هناك على الدوام رجفة رعب تحت سطح وعينا وان عقلنا الأمامي الكبير يمنحنا القدرة على التفكير المجرد والرمزي ونكون اذكياء بما يكفي لأن ندرك ان حياتنا محدودة الأمد مثل سائر الكائنات الحية الأخرى. وأضاف سولومون أن هذا كله يثير شعورا بالرعب الوجودي يمكن ان يصيب صاحبه بالشلل.&

ولاحظ سولومون ان علينا جميعاً ان نعيش مع هذا الرعب وان الانثروبولوجي بيكر يذهب إلى اننا لكي نستطيع النهوض في الصباح نلوذ بنُظم معتقدات رمزية مبنية بناء دقيقاً يسميها الانثروبولوجيون "ثقافة".&

فالثقافة تمنح كلا منا احساساً بأن للحياة معنى وأن لنا نحن قيمة، من خلال تطمينات بالخلود إما حرفياً في الجنة حين ننتقل إلى العالم الآخر أو امكانية ان يبقى شيء من إرثنا من بعدنا ذريتنا أو جمع ثروة طائلة تستمر بعد رحيلنا أو انتاج أعمال عظيمة في الفن والعلم. ولكن ليس هناك نظام معتقدات رمزي ذو بناء ثقافي قوي بما فيه الكفاية لطرد الخوف الناجم عن وعينا بالموت تماماً.&

وأشار سولومون في حديث مع مجلة شبيغل الالمانية إلى أن الطفل في سن الخامسة إلى التاسعة أو نحو ذلك يكتسب وعياً ذاتياً إلى حد يدرك معه أن والديه ليسا من المخلوقات كلية العلم وكلية القدرة كما كان يعتقد بل انهما يخطآن ويموتان ايضاً. وفي هذه المرحلة ننقل ولاءنا النفسي من الاعتماد حصرا على والدينا بالدرجة الرئيسية لنيل الأمان النفسي إلى الثقافة بصفة عامة.&

وأكد سولومون أن الخوف من الموت يؤثر في سلوك الأشخاص، كما أثبتت دراسات تجريبية شملت حتى قضاة رفعوا قيمة الكفالة النقدية التي فرضوها على متهمات بالبغاء أكثر من تسعة اضعاف الكفالة التي يفرضونها عادة حين جرى تذكيرهم بالموت قبل اتخاذ قرارهم بشأن تحديد قيمة الكفالة.&

نجاح هتلر والخوف من الموت!

ويذهب سولومون في كتابه إلى حد القول ان نجاح هتلر يمكن ان يُفسَّر بخوف الألمان من الموت. وقال في حديثه لمجلة شبيغل انه استند في رأيه هذا إلى هزيمة المانيا في الحرب العالمية الأولى والشروط المهينة التي فُرضت على الالمان بعد ذلك والأزمة الخانقة بسبب الكساد الاقتصادي في العشرينات.&

وتضافرت هذه العوامل على ايجاد تربة خصبة لظهور زعيم كاريزمي. واورد سولومون مثالا آخر هو موقف الاميركيين بعد هجمات 11 سبتمبر 2001.&

وقال "إن شعبية الرئيس جورج بوش هبطت قبل الهجمات إلى مستويات لم يُعرف نظيرها في تاريخ الاستطلاعات الرئاسية إلا نادرا ولكنها ارتفعت إلى اعلى المستويات بعد الهجمات مباشرة لأنها كانت "تذكيراً عملاقاً بالموت" لا سيما وانها استهدف رموز القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة. وعليه فان الهجمات كانت ذات تداعيات رمزية إلى جانب كونها تذكيراً حرفياً بالموت".

واليوم يوظف المرشح الجمهوري المفترض دونالد ترامب هذه المخاوف نفسها من الموت لدى الأميركيين، بحسب استاذ علم النفس الاجتماعي شيلدون سولومون قائلا "ان الذكور البيض ذوي المستوى المتدني من التعليم يشعرون بأنهم مهددون وجودياً الآن بسبب التغيرات السكانية في الولايات المتحدة حيث سيصبحون قريباً أقلية. ثم يأتي ترامب ويقول "أنا سأجعل اميركا عظيمة من جديد، وسأبني جداراً كبيراً! وسأمنع جميع المسلمين من الدخول!".&

ونوه سولومون بأن دراسة اجراها قبل شهرين اظهرت "ان الأشخاص الذين تناولتهم الدراسة ابدوا استعداداً أكبر للتصويت لصالح ترامب بعد تذكيرهم بالموت".&

الجنس والموت توأمان

ويؤكد سولومون أن الخوف من الموت يؤثر في السلوك الجنسي ايضا ناقلا عن العالم الانثروبولوجي ايرنست بيكر قوله "ان الجنس والموت توأمان". وأضاف "ان بيكر محق، فالجنس بوصفه نشاطاً جسدياً يذكرنا بأننا حيوانات. الحيوانات تمارس الجنس وتموت، ونحن نمارس الجنس، ولذلك نحن حيوانات ونموت. والقضية الأخرى هي اننا نتناسل وننجب ذرية في دورة حياتنا ثم نسلم المهمة إلى الجيل التالي. وهذا ايضا يجب ان يذكرنا بموتنا".

وشدد الأكاديمي سولومون على دور الفن في إبعاد وعينا عن العناصر المأساوية للوضع الانساني وايلولته إلى الفناء في نهاية المطاف معتبرًا أنّ الانسان أوجد الفن طريقة لانكار الموت. وكان برنارد شو من قال "من دون الفن فان فجاجة الواقع ستجعل العالم لا يُطاق"، ورالف والدو من كتب "نحن نهرب إلى الجمال من اهوال الوجود محدود الأجل".&

وتطرق سولومون إلى دور الدين قائلا إن منح الأمل بالخلود في عالم آخر "هو على الأرجح الوظيفة الأشد أهمية لسائر الأديان" معرباً عن اعجابه بالفكرة القائلة "ان الدين طريقة مبدعة إلى حد لا يُصدق لتحقيق الوئام بين جماعات كبيرة لايمت افرادها بصلة إلى بعضهم البعض وتنمية التلاحم الاجتماعي والتنسيق الاجتماعي".

فظاعة الخلود

وقال سولومون إن مواقف الأشخاص تتباين حين يعرفون انهم مصابون بمرض لا شفاء منه. "إذ تكون ردود افعالهم احياناً كما هو متوقع، يشعرون بالخوف وتنهار معنوياتهم ولكنهم في احيان أخرى يجدون معنى في الحياة أكثر من أي وقت مضى. وهي بمثابة منبه نفسي يطلق عملية يقدّرون فيها مذاق كل لحظة باقية".

واعترف العالم النفسي شيلدون سولومون بأنه بعد 40 سنة امضاها في دراسة الخوف من الموت لم يتمكن من التصالح مع هذه الحقيقة. وأنه يشعر أحيانا ان انهماكه في هذا الدراسة هي آليته لإنكار موته. ولكنه أضاف ان ما يساعد في مجرى الصراع مع الخوف من الموت ان نفكر في ان الخلود قد يكون اسوأ من الفناء.&

وأضاف "لو كنا خالدين لما بقي للحياة من معنى لأن لا شيء سيكون ذا قيمة. ومن المؤكد ان احدى الطرق للتخفيف من وطأة موتنا الحتمي هي التفكير في فظاعة البقاء أحياء إلى الأبد. ومع ذلك إذا قلتَ لي انه لم يبق لي إلا "س" من الأيام سأطلب ان تكون س زائد واحد".&

أعدت تقرير التقرير عن مجلة شبيغل الالمانية على الرابط التالي:&

http://www.spiegel.de/international/world/death-researcher-sheldon-solomon-on-the-fear-of-mortality-a-1098316.html