في كل زيارة أقوم بها إلى جمهورية أرض الصومال ذات الحكم الذاتي، ألاحظ أن هناك شيئا جديدا، لكن هذه المرة وجدت المزيد من المراكز التجارية متعددة الطوابق والفنادق والفيلات الفاخرة في العاصمة هرجيسا. قبل عقدين من الزمن فقط، كانت هذه المدينة تُعرف باسم "دريذن أفريقيا، وذلك بعد أن سُحقت بالقصف الجوي المستمر وفر منها سكانها وطلبوا اللجوء في الخارج. أقيم مطعم سعودي للوجبات السريعة في المدينة، وظهرت لافتات إعلانية حمراء عن وجبات الدجاج المقلي مع مجموعة متنوعة من الأطعمة الخفيفة غير الصحية، لكن الظاهرة الأبرز كانت قدوم أطباء الأسنان السوريين. في بلدة "بوراو" النائية حيث فقد البدو ماشيتهم بسبب جفاف مدمر، شاهدت لافتات تظهر صورا لكوارث في علاج الأسنان من بينها أسنان شديدة الالتواء ومشوهة، وأفواه بها فجوات بسبب فقدان بعض الأسنان. لكن المثير للدهشة أن هذه الصور تحولت لتظهر وجود ذات أسنان ناصعة البياض ترتسم عليها الابتسامات مثل نجوم هوليوود، وكُتب فوق هذه الصور عبارة "طبيب أسنان سوري". شاهدتُ الأمر ذاته في هرجيسا، عاصمة أرض الصومال. لقد كان وقت الصلاة في المسجد القريب مني بعد أن دخلت إلى مبنى كُتب عليه لافتة خدمات طبيب أسنان سوري. كانت هناك فتاة صومالية تقف خلف طاولة مملؤة بفرش الأسنان وخيط تنظيف الأسنان وغيرها من الأدوات التي لم أعرفها لكنها ترتبط بشكل واضح بصحة الفم. وطلبت مني هذه الفتاة الجلوس. بعد انتهاء الصلاة، دعاني رجل سوري بابتسامة واسعة وكان يرتدي قميصا أخضر للجلوس معه في غرفة الاجتماعات. كان هناك كرسي أبيض حديث للأسنان وعليه وسائد بلاستيكية زرقاء اللون. شاهدتُ ملصقات على الحائط تُظهر تقاطعات الأسنان واللثة. كانت هناك خزانة خشبية ذات واجهة زجاجية تحتوي على أدوات ثقب وملاقيط وغيرها من أدوات علاج الأسنان المثيرة للقلق، وبجانب الحوض كان يوجد قالب لفم وأسنان أحد الأشخاص. وجه الرجل حديثه إلي قائلا: "اسمي حسام، وأنا من (مدينة) حلب." وحينما سألته كيف انتهى به المطاف ليصل إلى جمهورية أرض الصومال، فأوضح أنه لم يكن من المفيد الذهاب إلى تركيا ولبنان وأوروبا بسبب المصاعب التي تواجه المهاجرين في العثور على عمل يناسب مهاراتهم. وقال: "دخلت إلى الانترنت، وبحثت في غوغل عن أماكن لا يوجد فيها أطباء أسنان، وأول شيء ظهر أمامي كانت مقديشو (عاصمة الصومال). ذهبت إلى هناك مع زوجتي وابني دون أن أعرف شخصا واحدا لاكتشف فقط أنها مثل حلب. لكن كان هناك اختلاف واحد، لقد زادت مكاسبي ثلاثة أضعاف." وأضاف: "سمعنا أن هناك وضعا آمنا في هرجيسا وسوريين آخرين يعيشون هناك، ولذا جئنا إلى هنا. لدينا هنا مجتمع صغير من الأطباء وأطباء الأسنان والمهندسين." طبيب سوري آخر التقيت بطبيب أسنان آخر لكنه من العاصمة دمشق، كانت علامات الحزن ترتسم على وجهه الطويل. وقال: "أتذكر تحذيرا لمسؤول بارز في الأمم المتحدة بأن سوريا ستصبح الصومال المقبلة. وقد أصبحت الآن هنا من بين جميع الأسنان." نظر إلي هذا الطبيب وجها لوجه وسألني: "أنتِ بريطانية، أليس كذلك؟ شعبك لا يريدونا، لكن الصوماليين يريدوننا." وهذا الأمر حقيقة، إذ أنني لم ألتق صوماليا واحدا يريد من السوريين أن يغادروا بلده. وأكد الصوماليون الذين التقيتهم أن ذلك هو نفس شعورهم تجاه اليمنيين، وقالوا إنه خلال الحرب الأهلية في أرض الصومال لجأ العديد منهم إلى اليمن عبر البحر، وبعضهم بنى حياة جديدة له في سوريا. لكن الأوضاع انقلبت رأسا على عقب، وبدأ الناس ينتقلون في الاتجاه المعاكس. وقال صديق صومالي بينما كنا نتحرك بالسيارة عبر طريق جديد رُصف حديثا يربط العاصمة الصومالية مقديشو بالساحل: "الحرب في سوريا واليمن أمر مؤسف." وأضاف: "لكن بطريقة ما كانت هذه الصراعات أمرا جيدا للصوماليين، إذ أنها دفعت إلينا بأشخاص لديهم مهارات نفتقدها، فهذا الطريق السلس والمذهل على سبيل المثال شيده لاجئون سوريون." وتابع: "إذا أردت أن تستمتع بأفضل وجبة في البلدة، يجب عليك أن تتجه لمطعم يمني". من بين الأشياء الأخرى التي لاحظتها في أرض الصومال هي المطاعم اليمنية الجديدة. لا يوجد أشياء تلفت الانتباه في هذه المطاعم، التي كان يوجد على مفارش موائدها آثار الشحوم وعلى جدرانها آثار الأدخنة، لكن وجبة الفول في الطبق القديم المصنوع من الصفيح الذي تقدمه هذه المطاعم كانت مذهلة. يقول فايز وهو مواطن يمني يعمل في أحد المطاعم في أرض الصومال "كنا نسمي (بلدنا) اليمن السعيد، لكن لا يوجد أي شيء يدعو للسعادة الآن في اليمن." أوضح عمال المطعم إنهم لم يجدوا أي مشكلة في إنشاء مشروع تجاري في أرض الصومال. وقالوا: "يجب أن يكون لدينا شريك محلي، وكما هو الحال في أي مكان في العالم، فإن المال هو العنصر الأهم. لكن مواطني أرض الصومال رحبوا بنا بالفعل، لقد عانوا الحرب ويريدون الآن أن يشاركوا سلامهم معنا". "اشتقت إلى حلب" امتلأت معدتي عن آخرها، لكن الفتى الصغير، الذي يخدم في المطعم، أصر على أن يقدم لي شيئا مميزا، وهي الحلوى اليمنية الرائعة. وبينما كنت أتناول الحلوى اللذيذة، خطر على ذهني حديث طبيب الأسنان السوري الذي ينحدر من مدينة حلب. لقد قال لي الطبيب السوري: "كنت أتمنى أن تتحدثين العربية، بدلا من التواصل من خلال صديقك الصومالي اللطيف الذي يتحدث لغتي." وأضاف: "ولأن الشعور بما أقوله مفقود فإنني أريدك أن تشعري به. أريدك أن تعرفي أن حلب لم تفارق ذهني وقلبي، حلب ستكون دائما وطني".
- آخر تحديث :
التعليقات