عاش الفنان جان فرانسوا ميليه فلاحًا ومات فلاحًا، ورسم الفلاحين الذين أوحوا لرسامين كبار لوحات ذاع صيتها، منهم فان غوغ ودالي.

إيلاف: رسم الفنان الفرنسي جان فرانسوا ميليه الفلاحين في العديد من أعماله، لكنها لم تلق استجابة واسعة من الوسط الفني التقليدي في حينه. وكان ميليه يقدم العمال الزراعيين والرعاة بوصفهم الموضوعات الرئيسة للوحاته، يضعهم في صدارة القماشة التي كانت تخصص في العادة للشخصيات والرموز الدينية أو التاريخية أو الأسطورية.

دعاية يسارية
كان ميليه، الذي عاش معظم أيامه على حافة الفقر المدقع، يرى قيمًا مسيحية عميقة في العمل العضلي، وبدا أن لوحاته تقترن ضمنًا بموضوعات دينية. لكن احتفاءه بنبل الطبقة الفلاحية كان يعتبر أقرب إلى الدعاية اليسارية في فرنسا، التي كانت شديدة الاهتمام بالمكانة الاجتماعية في منتصف القرن الثامن عشر.

في الواقع، كان ميليه يشعر بعدم ارتياح بين الأرستوقراطيين أو في صالونات الأثرياء. لم يكفّ عن تصوير الكدح المضني الذي كان مطلوبًا من أفراد الطبقات المسحوقة من المجتمع، لا يريد أن يرسم إلا ما تربطه به إلفة حميمة. قال ميليه مرة: "ولدتُ فلاحًا وسأموت فلاحًا".

في لوحته "صلاة التبشير الملائكي"، التي رسمها بين عامي 1857 و1859، يقف فلاح وفلاحة وحيدين يصلّيان. الرجل خلع طاقيته، والمرأة تشبك يديها بجانب عربة صغيرة محمّلة بالبطاطا التي جمعتها. 

الشمس في ساعة الغروب وراءهما، وتلوح عن بُعد معالم برج كنيسة. لا بد من أن تكون السادسة مساء، لأن في هذا الوقت تقرع الكنيسة أجراسها لصلاة التبشير الملائكي، فتوقف الاثنان برهة في الحقل للابتهال. في الأفق، ما زالت السماء مضاءة بشمس الغروب، وبرج الكنيسة يمثل العلاقة بين السماء والأرض في صميم إيمانهما.

مسيحي أولًا
هذه اللوحة الرائعة رسمها ميليه بتكليف من مقتني أعمال فنية يعيش في بوسطن. وكان عنوانها الأصلي "صلاة لمحصول البطاطا". لكن ميليه غيّره حين تراجع المقتني عن رغبته في شراء اللوحة. وتأثر فان غوغ لاحقًا باللوحة حين رسم "آكلو البطاطا" في عام 1885.

كان الرسام السوريالي سلفادور دالي أيضًا مهووسًا بلوحة ميليه، وأعاد إنتاج المشهد في مناسبات عديدة في ثلاثينيات القرن الماضي. ومن الجائز أن ميليه درس أعمال فنانين من عصر النهضة، مثل ليوناردو دافنشي ورافائيل، اللذين كانا يستخدمان المنظور الجوي مع رسم الأشكال الرئيسة في مقدمة اللوحة والأفق العميق في خلفيتها. 

لكن الشكلين في لوحة ميليه مرسومان أفقيًا كأنهما يقفان على خشبة مسرح على غرار الفنانين الكلاسيكيين الجدد في القرن الثامن عشر مثل جاك لوي ديفيد.

نشأ ميليه، المولود في عام 1814، في نورماندي في بيت متواضع، وأمضى طفولته يعمل في الحقول، إلى أن لاحظت جدته موهبته الفنية، ودبرت له بعض الدروس الخصوصية. لكنها أصرّت على تنبيهه قائلة: "تذكَّر يا جان فرانسوا أنك مسيحي قبل أن تكون فنانًا".

أكثر أعماله نضجًا
انتقل ميليه إلى باربيزون في عام 1848، وهي قرية رعوية جميلة عاش فيها ما بقي من حياته. وفيها رسم ميليه أكثر أعماله نضجًا وأوسع لوحاته شهرة. وبفضل قناعاته الشخصية وصوره البعيدة عن الرومانسية وحسه بجمال الطبيعة الخام، نال احترام الأجيال الآتية من الفنانين والمصورين الفوتوغرافيين والكتاب الشباب الذين استوحوا معتقداته الراسخة. وتأثر الانطباعيون الشباب خصوصًا بعمله، وكانوا في أحيان كثيرة يعترفون بتأثيره في أعمالهم.

في عام 1857، كُرّمت أخيرًا إنجازات ميليه الفنية حين شاركت لوحاته في المعرض العالمي، الذي أُقيم في باريس. وبحلول عام 1870، اُختير ميليه ليكون عضوًا في لجنة حكام "الصالون"، كما كان يُعرف المعرض الرسمي لأكاديمية الفنون الجميلة في باريس. شهدت سنواته الأخيرة نجاحًا ماليًا حين بيعت أعماله لمقتنين كبار وحظيت بتقدير عام.

توفي ميليه في عام 1875 عن 61 عامًا، وظل متمسكًا حتى النهاية بمقطعه الأثير من سفر التكوين: "بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أخذتَ منها. لأنك تراب وإلى تراب تعود".


أعدت "إيلاف" هذا التقرير بتصرف عن "دايلي تلغراف". الأصل منشور على الرابط:
http://www.telegraph.co.uk/art/what-to-see/charles-saatchis-great-masterpieces-millets-heavenly-peasants/