رسم للأم وابنتها
BBC

كانت ميغومي لا تزال طفلة رضيعة عندما انفصل والدها عن أمها واختفى من حياتها. ولكن بعد سنوات لاحقة أخبرتها أمها بأن والدها يرغب في إعادة التواصل معها. بدأت ميغومي لقاء يامادا بانتظام، معتقدة أنه والدها وأن "يامادا" هو اسمه الحقيقي. ولكن هذا مجرد كذبة.

تقول آساكو، والدة ميغومي، إنها في صغرها كانت دائمة السؤال عنه، وإن كل ما كانت تعرفه هو أنه ترك الأسرة بعد مولدها بفترة قصيرة، وإنها كانت تلوم نفسها على ذلك.

ولم يكن ذلك يمثل لسنوات مشكلة، ولكن مع بلوغ ميغومي العاشرة من العمر بدأت آساكو تلاحظ تغييراً في سلوكها. وتقول: "لم تعد تحادثني وأصبحت هادئة جداً وانطوائية. لقد استغرق الأمر بعض الوقت قبل أن أعلم بما "كانت تتعرض له في المدرسة من تنمر".

وأدركت آساكو أن ميغومي لم تكن فقط تلوم نفسها على انفصال والديها، بل إن زملاءها في الفصل الدراسي كانوا ينبذونها لأنه لم يكن لديها أب، فأطفال الآباء أو الأمهات المنفصلين في اليابان غالباً ما يكونون موصومين في المجتمع.

وانتهى الأمر بميغومي بأن أصبحت تحس بالتعاسة وترفض الذهاب إلى المدرسة. وقالت آساكو: "كانت طفلتي الوحيدة، وكان قلبي يتمزق لرؤيتها حزينة".

فتاة بلا أب
BBC

سعت آساكو إلى الحصول على مساعدة المعلمين بالمدرسة، وعندما فشلت مساعيها خطرت ببالها فكرة أخرى، تقول عنها: "كل ما كان بمقدوري أن أفكر فيه هو ماذا لو عثرت على رجل لطيف ودمث، يكون أبا مثاليا، أحد ما بإمكانه أن يجعلها تشعر بتحسن؟"

كانت آساكو قد سمعت بـ"وكالات تأجير الأقارب"، التي يمكن أن ترسل إليك بـ"ممثل" كي يؤدي دور الضيف في حفل زفاف أو يقوم بالمواعدة. وتعمل هذه الوكالات بشكلٍ منظم جداً في اليابان. وتواصلت مع إحداها لتسأل إن كان بالإمكان توفير ممثل يقوم بدور الأب لابنتها (أي أب مزيف). وبعد أن أخضعت خمسة مرشحين لاختبار، استقرت آساكو على أحدهم ويُدعى تاكاشي، ورأت أنه "الأكثر سهولة للتحدث إليه، وأنه لطيف وجذاب جداً ولذا فقد اتبعت فقط إحساسي الداخلي".

أما تاكاشي فيدير وكالة تأجير يعمل بها 20 موظفاً وأكثر من 1000 متعاون من رجال ونساء من مختلف الأعمار والخلفيات، بإمكانهم تولي أي مهمة بأسماء وشخصيات وأدوار غير حقيقية. ويجب عليهم في الغالب أن يكذبوا، لكنهم لا يخالفون القانون أبدا.

وأدى تاكاشي، وهو نفسه ممثل، دور الصاحب ورجل الأعمال والصديق والأب، كما كان "عريساً" في خمسة من حفلات الزفاف المزيفة.

ويعترف بأنه يستعد لأداء أدواره من خلال مشاهدة أفلام هوليوود، مثل الفيلم الحائز على جائزة الأوسكار Little Miss Sunshine، الذي يروي قصة عائلة مفككة تتوحد خلال رحلة على الطريق، وكذلك فيلم (الأحفاد) الذي يؤدي فيه جورج كلوني دور أب مهمل يتعين عليه فجأة أن يتحمل أعباء الأبوة بعد حدث مأساوي تتعرض له العائلة.

فتاة بلا أب
BBC

ويقول تاكاشي: "أدرس هذه الأفلام وأحفظ التعبيرات والجمل وأدون ملاحظات حول كيفية تفاعل مختلف أفراد العائلة وتواصلهم والمتطلبات التي يقتضيها الموقف لتكون أبا أو زوجا من نوع معين. ويساعدني هذا في فهم العلاقات الأسرية المختلفة".

التقت آساكو وتاكاشي عدة مرات للحديث عن نموذج الأب الذي ترغبه لابنتها ميغومي، ولخصت هذا قائلةً: طلباتي بسيطة جداً. أولاً أردته أن يعرب عن أسفه لعدم وجوده في حياتها من قبل، وثانياً أن يستمع لكل ما ترغب هي في قوله له.

وقد أبلغت آساكو ابنتها ميغومي بأن والدها تزوج مجدداً وأن لديه أسرة جديدة، إلا أنه عاد مؤخراً للتواصل معها لأنه يرغب في رؤيتهم من جديد.

وكان تاكاشي يعمل ممثلا كما قالت آساكو، أما ميغومي فكانت مصدومة، إلا أنها وافقت في نهاية المطاف على مقابلته. وهكذا بدأ الأمر إذن قبل عشر سنوات حين أصبح تاكاشي - يامادا والد ميغومي وهو أطول دور يقوم بتأديته، وربما أكثر دور مشكوك فيه أخلاقياً حتى اليوم.

ولا يزال تاكاشي يذكر لقاءهما الأول: "سألتني لماذا لم آت لرؤيتها من قبل، وقد استشعرت بامتعاضها".

وبدأ تاكاشي مؤدياً دور يامادا في رؤية ميغومي وأمها مرتين في الشهر ليخرج معهما، ويذهب إلى السينما ويزورهما للتهنئة بأعياد الميلاد. وتقول آساكو إنه لم يمض وقت طويل قبل أن تلحظ تغييراً حقيقياً على ابنتها. "بعد فترة أصبحت ميغومي أكثر سعادة وودودة، تحب الحديث، وتبدو حيوية، بل إنها رغبت في العودة إلى المدرسة .. وعندها قلت لنفسي: لقد كان الأمر يستحق كل ذاك العناء".

فتاة بلا أب
BBC

هناك مناسبة خاصة عالقة في ذهن آساكو حدثت عندما كانت هي ويامادا في يوم الآباء الذي تنظمه مدرسة ميغومي. تقول آساكو عن هذه الذكرى: "كنّا نقف في نهاية غرفة الفصل الدراسي، رأتنا معاً وظلت تلتفت بين الحين والآخر كي تنظر إلينا. كان على وجهها ابتسامة عريضة، وقد جعلني هذا سعيدة جداً".

والخدمة التي يؤديها تاكاشي ليست رخيصة. ففي كل مرة تستأجره آساكو كي يؤدي دور يامادا تدفع نحو عشرة آلاف ين (نحو تسعين دولاراً). ورغم أن راتبها لا بأس به، فإنها اضطرت إلى أن تقتصد كي توفر المبلغ. لكنها عندما تتذكر كم كانت ابنتها تعيسة، تدرك أنها أحسنت بإنفاق هذه المبالغ.

ورأى تاكاشي أيضا اختلافاً في ميغومي، عن تلك الفتاة الهادئة المترددة التي التقاها أول مرة: "تدريجياً أصبحت أكثر سعادة وثقة .. كنت معتاداً على لقائها مع آساكو، ثلاثتنا معاً، ولكنها في أحد الأيام قالت "أرغب في أن أخرج مع أبي فقط نحن الاثنان"، لذا خرجنا معاً وقد أمسكت بيدي يومها لأول مرة".

فتاة بلا أب
BBC

خلال فترة السنوات العشر الأخيرة، كبرت شخصية "يامادا" التي يؤديها تاكاشي لتصبح مقربة جدا من ميغومي التي باتت الآن شابةً صغيرة.

وأصبح يامادا جزءاً من العائلة حتى أنه يخبر ميغومي بأنه يحبها كما يمكن لأي أب أن يفعل، غير أنه طبعاً لا يحبها حقيقةً. كيف له أن يبرر هذا التلاعب؟ يقول تاكاشي: التنقل بين الشخصيات والهويات مهم جداً في هذه الوظيفة .. لكنني إنسان ولهذا بالطبع سيكون من الكذب أن أقول إنني لا أشعر بصراع عاطفي عندما أقول "أنا أحبك" لهذه الطفلة. ولكن هذا عمل، يجب عليّ القيام به وتذكير نفسي بذلك باستمرار".

وتتفهم آساكو أيضاً أن البعض قد لا يتفق مع خياراتها، وتقول: "أعرف أن ما أقوم به يعد متطرفاً ولكني حقيقة .. حقيقة أردت إنقاذ ابنتي".

ولكن الأمور باتت أكثر تعقيداً عندما أصبحت هي مرتبطة جداً بالشخصية الخيالية التي تدفع من أجلها المال لتاكاشي لأدائها. وتقول آساكو: أشعر بسلام عندما نكون ثلاثتنا معاً ... نتحدث ونضحك ونحن لطفاء جداً مع بعضنا البعض. إنه في حياتنا منذ وقت طويل جدا الآن، وأنا أرغب في الزواج به وأن نصبح عائلة حقيقية".

فتاة بلا أب
BBC

لكن يجب على آساكو أن تواجه الواقع المرير إذ إنها تحب شخصاً غير حقيقي لا يستطيع أن يبادلها الحب. تقول آساكو: "لقد كاشفته بمشاعري ولكنه واجهني بحقيقة أنه معنا بسبب وظيفته. الأمر معقد وأنا على وعي بحقيقة أنه معنا فقط، لأننا ندفع له لقاء ذلك ... يحلو لي أن أتخيل علاقتنا، وأننا ربما نصبح عائلة حقيقية ولكن العلاقة في وضعها الحالي تساعدنا عاطفياً وذهنياً أيضا. إنها تبقيني مستقرة".

وليس لدى آساكو في الواقع أي خطط لإنهاء الاتفاق مع تاكاشي، وتقول إنها ترغب في مواصلة توظيفه كي يلعب دور والد ميغومي إلى أجلٍ غير مسمى، حتى لو كان ذلك يعني الغرق بشكلٍ أعمق وأعمق في عالم الخيال والتلاعب.

وتشرح آساكو هذا قائلةً: "الوضع المثالي هو أن تواصل ابنتي التفكير فيه كأنه والدها، ولهذا عندما تتزوج سيكون في حفل زفافها، وعندما تنجب أرغب في أن يؤدي دور الجد أيضا. أما السيناريو الأسوأ فهو أن تكتشف ابنتي الحقيقة".

وماذا لو ظهر والد ميغومي الحقيقي؟

هذا احتمال لم تأخذه يوماً آساكو في الاعتبار جدياً، فهي لم تتواصل معه منذ طلاقهما، ولذا فإنها تشعر بأن الأمر مستبعد. أما إذا وقع بالفعل يوماً ما، فإنها تعتقد بأن ميغومي ستختار يامادا وليس والدها الحقيقي، لأن لديهما علاقة "أب وابنة" جيدة. إنه الأب المثالي تماماً كما أملت آساكو أن يكون.

ويعي تاكاشي أيضاً أن الكذبة قد تواصل نموها، ويقول: "هذه إحدى أكبر مشاكل استئجار فرد من أفراد العائلة .. قد تتزوج ميغومي في المستقبل وعندها سيعتقد زوجها أنني والدها وإذا ما أنجبت ستعتقد أنني جد لطفلها، وبذلك تصبح المخاطر أكبر وأكبر".

فتاة بلا أب
BBC

وفكر تاكاشي أيضا في شعور ميغومي إذا اكتشفت الحقيقة، إلا أن الحبكات التي تصورها قد يراها البعض متفائلة جدا، فهو يعتقد بأنه "أفضل السيناريوهات، يحلو لي أن أعتقد أنها ستشكرني على الاعتناء بها، وهذا يمثل نسبة 80 في المئة من خيالي، أما الـ20 في المئة المتبقية من خيالي فأعتقد من خلالها أنها ستكون مدمرة، وقد تسأل: لماذا أخبرتني بالحقيقة؟ لماذا لم تواصل الكذب عليّ حتى النهاية؟ ... أعتقد أنني كنت داعماً كبيراً لها في حياتها ... ربما قد تكون مبالغة أن أتوقع منها أن تشكرني ولكني على الأقل أرغب في أن تقر بالخدمة التي قدمناها".

وربما يجد العديد صعوبة في تفهم سبب إقدام آساكو على عمل قد يكون محزناً جداً لابنتها، إذا اكتشفت حقيقته، ولكنها تصر على موقفها، وتقول: "أعرف أن بعض الأشخاص يفكرون أنه من الغباء أن أدفع مالاً للكذب على ابنتي ومنحها أب مزيف، ولكني كنت في أمس الحاجة لذلك ... إلى أي شخص بإمكانه أن يتفهم ذلك الشعور الفظيع باليأس وأن ترى طفلك في حالة يرثى لها".

وتشير آساكو إلى أنها تقلق بشأن التأثير المحتمل على ميغومي (إن اكتشفت الحقيقة)، لكنها تحاول ألا تفكر في الأمر. كما تعتقد أن مثل هذه الأمور أكثر انتشاراً مما تتخيل وتقول: "وضعي ليس فريداً. أنا على يقين من وجود الكثير من الأمهات والآباء "البديلين".

(غيرت جميع الأسماء الحقيقية حتى لا تكتشف ميغومي التلاعب قبل أن تكون والدتها جاهزة لإخبارها به).