الرباط: حوالي 74 في المائة من مجموع العينة التي أجابت عن سؤال استطلاع" إيلاف المغرب" بخصوص موقف السلطات المغربية من مناشدات المطالبة بالعفو عن مشعلي حراك منطقة الريف المعتقلين على خلفية تهم ثقيلة؛ يعتقدون أن سر"تصلب " السلطات يعود لامتلاكها "دلائل وقرائن" على أن متزعمي الاحتجاج ربما تجاوزوا الخطوط الحمراء.
وساور السلطات المغربية اعتقاد بأن ما قام به المحتجون من استعراض أرعن للقوة والاشتباك مع عناصر الأمن والقوات العمومية ورشقها بالحجارة أو بما ملكت أيديهم، في أمكنة عدة من مدينة الحسيمة وضواحيها ؛ لم يكن مجرد هجوم للتعبير عن مطالب اجتماعية مشروعة، بالنظر إلى أن الشعارات النارية المرفوعة وكذا التصريحات المنسوبة إليهم، تعدت المسموح به في تظاهرة تدعي السلمية .
وكانت تقارير صحفية أفادت في حينها أن التحقيقات الأمنية وتحريات أجهزة الاستخبارات في الداخل والخارج ، وضعت يدها على ما اعتبرته ضلوعًا لبعض الناشطين في جريمة التخابر مع الأجنبي ،لإلحاق الأذى بالوطن المحاط بالخصوم والمتربصين به في ظرف سياسي حرج تعرفه البلاد؛ وبالتالي فإن أي تساهل مع المعتصمين في الشارع سيفسر، حقا أو باطلا، على أنه ضعف من جانب الدولة، حيال أفراد أو جماعات يستهدفون الإخلال بأمن البلاد واستقرارها، لهم ارتباط فعلي أو افتراضي مع جهات معادية في الخارج.
والحقيقة أن الرأي العام المحلي والوطني، ومنذ اعتقال العناصر الرئيسة المسؤولة عن تأجيج الاحتجاج، ثم إحالتهم على العدالة؛ توقع تسريع إجراء المحاكمات ليعقبها صدور أحكام ، يحق بعدها لملك البلاد ، بمقتضى النص الدستوري، التدخل بإصدار عفو شامل أو جزئي عن المحكوم عليهم أو التخفيف من العقوبات بل حتى إسقاط المتابعات في الحالات التي لا تتعارض بشكل صريح مع القانون.
واستند المراهنون على حدوث انفراج وشيك في الأجواء ، إلى سوابق تعودها المغاربة ، ممثلين في النسيج الحقوقي ، من الملك محمد السادس الذي ابدى في مناسبات وسياقات عدة وأكثر تعقيدا ، قدرًا كبيراً من الرحمة والتسامح، حيال شباب متحمسين لم يقدروا عواقب الأفعال التي ارتكبوها أو شجعوا عليها، بصرف النظر، عن حسن أو سوء ظنهم وسلامة مقصدهم ؛ فقد جرى التقليد في المغرب أن الذي يقصد "الدار الكبيرة" كناية عن القصر الملكي، ويلتمس العفو، لا يعود خائب المسعى .
الجدير بالذكر، أن تقارير أخرى تحدثت في وقت ما عن رغبة الدولة في إنهاء سلمي للاحتجاج ،عبر الاستجابة لبعض المطالب العاجلة وبرمجة اخرى وخاصة ما يتعلق بالخدمات الأساسية .
ولذات الغرض، اتخذت السلطات مبادرتين متزامنتين: فتح قنوات الحوار مع الشباب الغاضب والاستماع إليهم على اعتبار أنهم ينطقون باسم سكان الحسيمة . وتمثلت المبادرة الثانية في مراجعة دفتر التزامات الحكومة لمعرفة ما نفذ وما تعثر من مشاريع اجتماعية - اقتصادية استهدفت تنمية أقاليم الريف؛ ليتضح أن هناك تقصيرًا رسميًا بخصوص تنفيذها ، عوقب المتسببون فيه من وزراء ومسؤولين نافذين، فيما عرف بـ "الزلزال السياسي " في المغرب.
لقد أسكتت أصوات المحتجين في الشارع ولكنها علت أكثر في قفص العدالة، وما رفع في وجه القضاة من كلام صاخب يفوق في حدته اللفظية ما فاه به المتظاهرون في وجه قوات الأمن.
ونتيجة للتصعيد، مرت مناسبات وطنية ودينية كثيرة ، صدر فيها عفو تقليدي عن مدانين بالعشرات والمئات، لكن القوائم خلت من أسماء المتابعين في أحداث الريف.
ما تفسير ذلك خاصة والمشهور عن ملك المغرب أنه متسامح، لا يرد طلبا بالعفو إذا تبين له ، بعد التحري والتدقيق، أن المذنبين أخطأوا وتداركهم الندم . هذا برأي المراقبين احد الأسباب الرئيسة لاستمرار الأزمة وإطالة أمد المحاكمات.
أن لا يمارس الملك حقه الدستوري ، فذاك يعني أن الملفات مثقلة ومبللة، خلاف مرافعات دفاع المتهمين التي تحاول إثبات البراءة وأنها فارغة ، فما تحتويه من حجج ومستمسكات لا تستوجب، من وجهة نظر الدفاع، التهم الثقيلة التي يواجهونها، وكذا العقاب الذي قد يترتب عنها.
والحقيقة أن استحضار محطات وفصول حراك الريف منذ اندلاعه ، يثير كثيرًا من التساؤلات في ذهن أي ملاحظ يسعى إلى معرفة الحقيقة . بعض الأسئلة تتعلق بحقيقة الطابع السلمي للحراك، على اعتبار أن صدامات واشتباكات متكررة ، خلفت جرحى في صفوف الطرفين ،أعطت الدليل على أن المحتجين قد تحركهم أجندات غامضة، تجاوزت حماسة الشباب وعفوية المتظاهرين ، بل ربما تقف أيادٍ خفية وراءها وتحركها لأهداف خفية قد تنجلي في يوم من الأيام.
ومما قوّى الشعور بالشك والريبة لدى السلطات والجهاز الأمني، أن الشعارات المرفوعة بالهتاف والكتابة،إلى جانب التلويح بما يسمى "العلم الامازيغي" دون العلم الوطني ،إضافة إلى الخطب الكثيرة التي ألقاها من يوصف بأنه قائد الحراك الميداني ، ناصر الزفزافي، وقد وضع خلفه، صورة ، محمد بن عبد الكريم الخطابي ، رمز المقاومة ضد الاستعمار الإسباني. كلها مؤشرات وإشارات على "مخطط" تورط فيه المحتجون ولم ينتبهوا أنه سيلقي بهم في متاهات ويجرهم إلى مزالق خطيرة .
في هذا السياق ، تجدر الإشارة إلى أن السلطات المغربية أخطأت من جانبها و قصرت بل تأخرت في التعاطي مع المشكل واحتوائه قبل أن تمتد حرائقه فتتعمق الأزمة بين سكان المنطقة والدولة. كانت البلاد غارقة في أزمة حكومية .
وهنا أيضا يكمن الخطأ الجسيم الذي ارتكبه "متزعمو الحراك" فقد دخلوا في نزال غير متكافئ مع السلطة، في توقيت غير مناسب، ملوحين بنوايا انفصالية إلى درجة تفضيل حكم المستعمر الإسباني. خاضوا معركة لا يمكن أن تنتهي لصالحهم ، بالعنف اللفظي وحتى الجسدي ؛ ما أدى إلى إمعان في التصعيد من الجانبين وانعدام الثقة بينهما.
ما دلالة التصويت بنسبة عالية لصالح فرضية انزلاق حراك الريف عن أهدافه المعلنة وتبرير تشدد السلطات، وقد انتهى به المطاف في نفق تلفه العتمة ، لا أحد يدري كم من شيطان يتحرك بداخله ؟
إذا كان من تفسير منطقي لذلك، فهو أن المغاربة في غالبيتهم ، متشبثون بمطلب العدالة الاجتماعية والمجالية، لكن الاستطلاع، على رمزيته ومحدودية العينة ، يدل على أنهم كما في مناسبات اشد (حركة 20 فبراير) ، غير مستعدين للمقامرة باستقرار البلاد ، خاصة وأنهم يشاهدون كل يوم، في تلفزيونات العالم، المصائر التي آل إليها الحراك المجتمعي في عدد من الدول العربية ؛ فالمنطلق هو ذاته : مجموعات أنفار ، يتجمعون في ساحات ، يرفعون شعارات رومانسية لا يعترض عليها أحد ، لكن النار سرعان ما تنتشر بين الحشود، بفعل فاعلين يحملون قنينات البنزين ، يسكبون ما بها بين الإقدام فتتكاثر ألسنة النيران..
المغاربة بطوائفهم، ميالون عموما إلى السلم ومقتنعون بأن نظام الحكم في بلادهم، أفضل بكثير مما يمكن أن تأتي به انتفاضة غاضبة وغامضة.
صحيح أن الديمقراطية لم ترسخ بعد في النفوس وتضبط سلوك مدبري الشأن العام المحلي والوطني، لكن الأنصاف يقتضي القول إن انتظارات البلاد باتت واضحة والطريق إليها شبه سالكة .
ولا تسعى قراءة نتائج الاستطلاع ، بأي حال من الأحوال ، إلى إدانة متزعمي حراك الريف أو الحكم على مسعاهم، إذ يكفي أنهم يجتازون محنة إنسانية صعبة، فالحرمان من الحرية لا يعادله أي عقاب مهما اشتد وقسا.
وانطلاقا من ذات المبدأ، لا ينبغي تحميل السلطة كافة المسؤوليات . بالتأكيد قصرت لكنها تعاملت مع الأحداث بما حملته من إكراهات وضغوطات وسياقات شابها التباس كبير لم يدركه المحتجون أو تغاضوا عنه .
وأخيرا، فإنه ما كان حريًا باحتجاج الريف، أن يطول كل هذه المدة، وان تنعقد جلسات طويلة زاخرة بالمشاحنات في المحاكم، قبل البت في الأفعال المنسوبة إلى الناشطين . مشهد يقدم صورة سلبية عن وضع الحريات في المغرب، لكن ذات المشهد يشير إلى ما هو أخطر : غياب الهيئات الوسيطة المنتخبة وكذا المنتمية إلى المجتمع المدني، لتقوم بدورها في تهدئة الأجواء وتقليص مسافات الخلاف عبر الحوار الناجع بين المحتجين والسلطة .هكذا لم تتحرك مبادرات جادة يتمتع مطلقوها بمصداقية. ظل حراك الريف يراوح مكانه في شبكات التواصل الاجتماعي، حيث ارتفع منسوب الكلام الهابط الذي لا يقدم حلاً، سوى جر البلاد إلى أجواء ما قبل دستور 2011.
التعليقات