إيلاف من لندن: شظف العيش العربي، سلمًا وحربًا، مشهدية يختلط فيها الدمع بالدم، والقهر بالأمل، من شرق الوطن العربي إلى غربه، من صراعه مع الإسرائيلي إلى صراعاته الداخلية التي لا تنتهي، ومن تحوله الديمقراطي بـ "ربيع" أجهضته الثورات المضادة إلى ردة إسلامية على علمانية نشرتها القومية في نصف قرن من "النضال".

مشهدية ضاجة

امتدت هذه المشهدية في أكثر من لحظة سينمائية، التقطتها العدسات وحولتها نوعًا من التسجيل التفصيلي أو التأريخ التوثيقي. إحدى هذه اللحظات فيلم "يوم في حلب" للصحافي السوري علي الإبراهيم، الذي عايش حياة الحلبيين في صراع يومي للبقاء أو لاقتناص لحظات سعادة مسروقة، ناقلًا للعالم صورة سورية "الأسد الكاسر" الذي يقتل بلا هوادة، وصوت صمت ليس ما يعبر عن حياة المدنيين هناك أكثر منه. 

خاتمة الفيلم هذا خلاصة المعاناة كلها: "الشي اللي بيخليني لسّا عايش هو إني بشعر بالخوف". إنه الخوف الذي رافق كل حي في حلب المحاصرة، والخوف الذي تحول دمعًا في عين قاومت المخرز أعوامًا منذ بداية "الثورة" التي ذبحها العالم، والخوف نفسه الذي قدمه الإبراهيم رديفًا لأمل سوري يحيا رغمًا عن القصف بالبراميل المتفجرة، في ظل خوذة بيضاء لا أكثر، والذي سجله بعدسة أحسنت التقاط رسمًا سورياليًا لسوريين يكافحون للابتعاد عن موت يأتيهم في غفلة منهم، كما جوائز اليانصيب.

إنسانية طاغية

ليس مضمون الفيلم القصير الممتد 24 دقيقة عصيًا على التوقع، غير أنه من البساطة والعفوية وانكبابه على تسجيل انفعالات المحاصرين ما يتيح له رسم فسيفساء إنسانية اجتماعية لعيش مستحيل بانتظار "البرميل" حينًا أو "السارين" أحيانًا.

الفاعل الوحيد في الفيلم، بطوله، هو صوت القصف. الصوت الذي يكاد يكون الحاضر الوحيد، الدال على ترويع ما شهده التاريخ الحديث، والشاهد على شعب ما أن نادى بالحرية حتى ذبحه العالم. ثمة صوت آخر لا يكف عن الصدور: صوت الإنسانية التي تتخبط هنا وهناك؛ مرة بجلبة امرأة تعجن، ومرة بصوت أقدام طفل يعبر فناء مدرسة صارت شبه مدرسة.، ومرة بطقطقة رغيف الخبز على الصاج الأسود.

من دون أن ينطق، يقول الإبراهيم الكثير عن الإنسان في حلب تحت القصف الحصار. فمشهد الرجل وقططه كفيل بإيصال أبلغ رسالة في هذا القبيل. 

بالصورة المعبرة

يحمل الإبراهيم كاميراه وينتقل بين أحياء مدينته المدمّرة، بين من أتعبهم الموت ومن أتعبتهم الحياة ومن كسر حصار نفسه غير آبه بحصار مدينته. يحول الصمت صراخًا، والعجز إمكانًا والسور منفذ من الموت المعجل إلى حيوية العيش لو كان مؤجلًا.

كان أصعب ما واجه ابراهيم وناسه في أثناء تصوير "يوم في حلب" هو القصف المتواصل على المناطق المدنية، ولهذا استغرق تصوير 24 دقيقة وقتًا طويلًا فى تسجيله. وحلب نفسها مترامية الأطراف، فيها 35 حيًا، ولهذا احتاج الابراهيم فريقًا كبيرًا لتحقيق الفيلم، لكنّ ثمة مدنيين كانوا في عديد الفريق الذي ساعده نالت منهم قذيقة هنا أو رصاصة قناص هناك. فمتى انقطع الابراهيم عن التصوير وعاد إليه بعد شهر أو أكثر، وجد بعضًا ممن كانوا معه قد رحلوا. 

إلى ذلك، كان طموحه أن يستخدم تقنيات عالية لتوثيق القصف، لكن ما كان باليد حيلة مع هذا الحصار ومع هذه البراميل، إلا الرضى "بالموجود". 

نظرة واضحة

شارك الإبراهيم بفيلمه "يوم في حلب" في أكثر من 26 مهرجانًا دوليًا، وفاز بـ9 جوائز. وثمة محطات دولية أخرى مقبل عليها ليحصد جوائز أخرى، تؤكد أن لصراخ هذا الفيلم صدى مرعبًا.

فليس في هذا الفيلم إلا القصف والصمت، فالإبراهيم اعتمد في تبيان الحقيقة على الحقيقة نفسها. قال شاهدوها، فلن أكلمكم عنها. قال شاهدوها بأم العين، وهذه صورتي وهي أبلغ من ألف كلمة. ولهذا، تمكن من نقل ما جرى فى حلب، وفي سوريا تاليًا، إلى العالم كله.

وكما الصمت، وكما الإنسانية، كان الموت مهيمنًا على فيلم الإبراهيم بشكل يبين فعلًا ما واجهته حلب طيلة سنوات.

حتى عندما تبتعد الكاميرا عن المدافن المكتظة، نجدها تلاحق شبح الحياة الباقي بين ثنايا الموت، أو تمر في خلال دخان القذائف التي تتساقط بصمت أحيانًا.

الصورة واضحة. الرسالة واضحة. تنتهي أخيرًا بأنين تحت الأنقاض، بنظرة طفل قام من بين الأموات. إنه الفيلم التسجيلي الأول الذي يقدم نظرة مختلفة لهذا البلد الذي مزقته الحرب.​