الرباط: بنسبة مرتفعة تجاوزت الثمانين في المائة، دعت العينة التي أجابت عن سؤال "إيلاف المغرب" إلى مراجعة وإصلاح منظومة الامتحانات والتقييم المطبقة حاليا في امتحانات شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) ويرون أن ذلك باتت واجبا تربويا وأخلاقيا، جراء تقادم المنظومة التعليمية، وفشلها في الحد من تفشي الظاهرة المسيئة للمدرسة المغربية.

ووضعت "إيلاف المغرب" السؤال على متصفحيها، على إثر ظهور تسجيلات غريبة بالصوت والصورة والوجوه السافرة بثها موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، جاهر فيها تلاميذ غادروا للتو قاعات الامتحان، فخورين بأنهم مارسوا الغش أو حاولوا ذلك بمختلف الطرق دون أن يشعروا بخجل من فعل شنيع يمثل خرقا سافرا لمبدأ الإنصاف والمساواة بين التلاميذ أمام الامتحانات

وإذا كان الغش في الاختبارات ظاهرة عادية يقع التساهل معها أحيانا ما دامت الحالات معدودة ومحدودة وتحت السيطرة ؛ إلا أنها سجلت بالمغرب خلال السنوات الأخيرة رقما تصاعديا مقلقا في امتحانات الباكالوريا، ما استدعى استنفار السلطات التربوية واضطرارها لفرض أساليب الزجر والردع و تشديدها بإنزال العقوبات الصارمة على من تم ضبطه في وضعية غش.

وكان وزير التربية الجديد سعيد أمزازي، أعرب عن ارتياحه لتراجع حالات الغش المسجلة في امتحانات الباكالوريا الأخيرة دون أن يوضح أسباب ذلك: هل يعود إلى فعالية المراقبة أم إلى خوف الغشاشين من إنفاذ القانون.

الوزير أمزازي، ترك رئاسة الجامعة في الرباط، ليخلف محمد حصاد، الذي نودي عليه من وزارة الداخلية ليفرض الأمن والنظام في قطاع التربية والتعليم، سوى أن رهانه فشل على اثر اتهامه ووزراء آخرين بالتقصير في تنفيذ مشاريع تعليمية وتنموية في منطقة الحسيمة، استوجب إقالتهم، بعد خروج السكان إلى الشارع والتظاهر احتجاجا على التهميش والحرمان من المتطلبات الضرورية لحياة السكان، وخاصة ما يتعلق بالصحة والتعليم إضافة إلى مشكل البطالة الذي مس فئات واسعة من الشباب المتعلم في المنطقة. 

والحقيقة أن محاولات الغش في الامتحانات ليست مقصورة على المغرب وفي المرحلة الثانوية بل توجد بنسب متفاوتة في أغلب مستويات التعليم من الابتدائي إلى نهاية العالي؛ وهي مرتبطة بمنظومة الأخلاق والقيم السلوكية التي تربى عليها المتعلمون في البيت والمدرسة والمجتمع.

هو مشكل عويص له امتدادات سلبية في المجتمع، على اعتبار أن الذي تعود على الاحتيال والغش في الامتحان ستلازمه تلك العادة السيئة عندما يكلف بأداء مهمة أو القيام بعمل، دون الاعتماد على النفس وإنما يسرق جهود الآخرين. 

وتدل الإجابات على شعور المستجوبين بالمشكل وتحميلهم المسؤولية للسلطات التعليمية التي لم تنجح في معالجة هذا الخلل عبر تطوير أساليب التقويم والاختبار بما يقلل من لجوء الممتحنين إلى الغش.

والحقيقة أن التأخر في تحديث المنظومة التربوية وعدم التصدي إلى الظواهر السلبية في إبانها، يعقد المشكل مع مضي السنوات وتوالي الأجيال. وهو مظهر آخر من مظاهر الأزمة التعليمية العميقة في المغرب، جربت معها بعض الحلول الجزئية دون النفاذ إلى جوهر المعضلة. وهذا مبحث آخر.فما دام التحصيل المدرسي قائما على أساليب الحفظ والاستظهار وتخزين المعلومات في الذهن لإعادتها كما هي مكتوبة أو مسروقة في ورقة الامتحان، فإن ذلك يشجع على النقل والغش.

السؤال التقليدي يخاطب الذاكرة الحافظة وليس الكفاءات الذهنية وقياس قدرة الممتحن على التحليل والاستنتاج والمقارنة والإنتاج. السؤال المباشر الواضح يستدعي حتما اللجوء إلى النقل المكشوف أيضا.

يكمن الإشكال في أن اللجوء إلى وسيلة النقل في الامتحان لا يمس مواد الحفظ فقط حيث الاعتماد على الذاكرة، بل امتد إلى المواد العلمية التي يفترض أن تعود الممتحنين على تبيان قدرتهم في حل المشكلات باستخدام ذكائهم وخبراتهم التعليمية المتراكمة عبر المراحل والمستويات التعليمية التي قطعوها ؛ عملا بالفكرة القائلة " الذهن المدرب على التحليل المنهجي أفضل من المحشو بالمعلومات "

وظهر تطور آخر شجع الغشاشين على مخالفة قوانين الامتحان ويتمثل في ثورة التكنولوجيا التي تسهل عمليات النقل والغش. ومن المفارقات أن بعض الممتحنين طوروا أساليب الغش الالكتروني وتعاونوا فيما بينهم من خلال شبكات منظمة وفاعلة ؛ الأمر الذي فرض على السلطات التصدي للعصابات الصغيرة ومقاومتها، بجيش الكتروني عبر عدة إجراءات ضمنها توخي الحذر الأكبر لمنع تسريب أسئلة الامتحانات وتجريد الممتحنين من الهواتف الذكية وغيرها من الأدوات المستعملة وإخضاعهم للتفتيش

لا بد من التأكيد على أن مرتكبي هذه المخالفات ليس بالعدد الكبير كما يبدو ذلك من خلال التعرض لها في وسائل التواصل باعتبارها حالات مثيرة يرغب الرأي العام في معرفة تفاصيلها اذ ان البعض منهم يعتبرها علامات على ذكاء خارق، فيما يراها آخرون دليلا على فساد القيم وانهيار منظومة التربية والتعليم.

جدير بالذكر في هذا السياق أنه لا توجد معطيات مدققة عن هذه الظاهرة، بالنظر إلى أن المؤسسات التعليمية التي يجري فيها الامتحان، تحرص قدر الإمكان على معالجة أحداث الغش في المهد والحيلولة دون انتشار أصدائها بين التلاميذ وأسرهم.

إن الحصول على معطيات موضوعية لتشخيص الآفة وانتشارها، يمر عبر إجراء مسح ميداني شامل والبحث عن الأسباب والعلل ومصادر الخلل.

والمؤكد أن أي بحث ميداني سيوضح بجلاء أن الظاهرة معقدة ومنتشرة ومتشابكة الأسباب، مثلها مثل باقي الظواهر والعادات الاجتماعية السلبية مثل الرشوة والتملص الضريبي والتحايل على القانون والكذب وضعف الوازع الأخلاقي.

بالعودة إلى الوزير السابق محمد حصاد، وهو مهندس متخرج من فرنسا، خدم الإدارة المغربية عقودا من الزمن في مختلف المواقع، نود التذكير انه لمح لما كان وزيرا للتربية أن الوزارة ستعيد النظر في منظومة امتحانات الباكالوريا، لتحرير الممتحنين من كابوس الامتحان الذي يدفعهم إلى محاولات الغش للاعتماد في المستقبل على الكيف دون الكم بغاية التأكد بوسائل حديثة من قدرات التلاميذ على تمثل جيد للمواد الدراسية وحسن استغلالها أثناء الامتحان والمراقبات المستمرة.

ومعلوم أن فرنسا تتجه من جهتها، حسب تصريحات سابقة لوزير التربية الحالي، إلى مراجعة نظام الثانوية العامة، عبر التخفيف من الأعباء على التلاميذ وتقليص عدد المواد ودمجها في بعضها،واعتماد أسئلة واختبارات تخاطب الذكاء قبل الحفظ.

باختصار، مشكل المغرب وعدد من الدول يتمثل أيضا في أن التكنولوجيا الحديثة، غيرت مسار المعارف وسبل انتقالها بين الناس أفرادا وجماعات بمن فيهم الذين ينهلون العلم في المدارس والجامعات ومراكز التكوين. وبالتالي وجب تغيير أساليب استعادتها والتأكد من اكتسابها.

والمشكل الأكبر الذي استفحل مع الزمن، هو أن توسع الهرم التعليمي على مستوى القاعدة والقمة في المغرب، يجعل أي إصلاح تربوي ذا كلفة كبيرة كما يستلزم تفكيك منظومات تقليدية اعتاد عليها الناس لأنها تشجع الكسل والتواكل.

الغش في الامتحان، مهما كان مداه، مؤشر على انتهاء صلاحية أنظمة تعليمية عتيقة، كانت نافعة في وقتها. وأي إصلاح ترقيعي يعقد المشاكل ويجعلها أعوص من ذي قبل.