ما عادت وسائل الإعلام الرقمية قادرة على الاستمرار اليوم من دون مساعدة، لذا صار شائعًا أن تعتمد نماذج مختلفة مما يسمى "اقتصاد المحتوى المدفوع"، كي يساهم القارئ في بقاء الوسيلة الإعلامية التي يعتمدها مصدرًا لأخباره اليومية.

إيلاف من دبي: في مقالة مستقاة من دراسة مسحية واسعة النطاق قام بها إدواردو شواريز، رئيس قسم الاتصالات في معهد رويترز لدراسة الصحافة، يطرح هذا الصحافي الإسباني مسألة النماذج المعتمدة للاشتراك في المؤسسات الإعلامية الرقمية في المملكة المتحدة وإسبانيا في ظل تراجع الريع الإعلاني، عارضًا لسمات لا بد من التنبّه إليها كي تحقق هذه المؤسسات الإعلامية الرقمية ما ترجوه من فائدة مالية تخولها الاستمرار في تقديم خدماتها لقرائها.

بحسب شواريز، ثمة ثلاثة أسباب، في أقل تقدير، لظاهرة المحتوى المدفوع: الأول، توسع استخدام الإنترنت في العالم، ما يسهّل بناء الخدمات الرقمية المخصصة لسوق استهلاكي إخباري واسع النطاق؛ الثاني، صعود جيل الألفية وجيل ما بعد الألفية، اللذين يفضل أفرادهما مسألة الوصول إلى المعلومة على الأصول المالية للوسيلة التي تقدم المعلومة؛ والثالث، القدرة على تحليل سلوك العملاء في الوقت الحقيقي.

قواسم مشتركة

عمد بعض الصحف إلى انتهاج نهج الاشتراكات الرقمية، أي المحتوى المدفوع، في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، إلا أن معظمها فشل في ذلك، ولهذا الفشل أسباب عدة؛ فقد كانت أنظمة الدفع غير متماسكة وغير مأمونة، وكان الإعلان الرقمي لا يزال جذابًا بالنسبة إلى الصحف العامة، كما أن الناس ما كانوا قد اعتادوا بعد دفع ثمن الخدمات المقدمة عبر الإنترنت. إلى ذلك، ما كانت الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية قد انتشرت بعد.

في بحثه هذا، يستكشف شواريز ما تفعله الشركات مقدمة الخدمات الإخبارية التي تعتمد نماذج المحتوى المدفوع، من خلال مقابلات مع 26 مديرًا تنفيذيًا لوسائل الإعلام من 15 مؤسسة إخبارية. معظم هذه المؤسسات الإخبارية موجود في إسبانيا والمملكة المتحدة، وبعضها مستقر في دول أوروبية أخرى مثل الدنمارك والسويد وإيطاليا وفرنسا.

يقول شواريز إن ثمة قواسم مشتركة بين المؤسسات الإعلامية الإسبانية والبريطانية، في مقدمها النسب المئوية المماثلة من المستهلكين المستعدين لدفع ثمن الأخبار وفقًا لتقرير الأخبار الرقمية: 10 في المئة في إسبانيا و9 في المئة في المملكة المتحدة، ونعمة (أو لعنة) نشر المحتوى الإخباري بلغة عالمية.

نماذج خاصة

معظم صحف التابلويد والمؤسسات الإخبارية الرقمية مجانية في المملكة المتحدة، وتعمل تحت ظل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي). على الرغم من ذلك، يعتمد معظم الصحف والمجلات الوطنية نماذج لتحصيل الاشتراكات من قرائها مقابل المحتوى المدفوع.

تتشدد "فاينانشيال تايمز" و"تايمز" و"صنداي تايمز" مع القارئ من خلال عرض عنوان المقالة وبعض الإشارات إلى المحتوى الذي لا ينكشف إلا لمن يدفع. وتعتمد "تلغراف" أنموذج فريميوم، أي تعرض الحد الأدنى من المحتوى، ومن يريد مزايا إضافية عليه أن يدفع ثمنها، فيما تجمع "غارديان" بين العضوية والمساهمة (التبرع)، مقدمة العديد من خيارات المحتوى المدفوع.

الوضع في إسبانيا مختلف. في يناير 2020، كانت صحيفة eldiario.es الرقمية تضم أكثر من 35000 عضوًا يدفعون ثمن عضويتهم، بينما يعتمد العديد من الصحف الإقليمية مبدأ الاشتراكات الرقمية. لكن، لم تكن أي مؤسسة إخبارية وطنية تعتمد أنموذجًا فعليًا للدفع مقابل المحتوى في يوليو 2019.

سمات اقتصاد الاشتراك

يبحث شواريز في الاستراتيجيات المالية المختلفة التي تعتمدها مؤسسات إخبارية رقمية كي تستمر في تقديم خدمات المحتوى ذات القيمة المضافة، من خلال الاعتماد على جني الأموال من القراء بطرائق مختلفة، فيحدد سمات لا بد من التنبّه إليها في ما يسمّيه "اقتصاد المحتوى المدفوع" في عالم الإعلام اليوم.

أولًا، تتطلب نماذج الدفع مقابل المحتوى نوعًا مختلفًا من التنظيم؛ "فأفضل المديرين التنفيذيين في وسائل الإعلام هو من يتأكد أن المقاييس المهمة في هذه المسألة معروفة من الجميع. فالإعجاب في موقع فايسبوك، وعدد مشاهدة الصفحة، والمستخدمون المميزون، مسائل مهمة اليوم لتحقيق الغاية المنشودة، إلا وهي جذب المشتركين الذين يدفعون مالًا مقابل المحتوى، والمحافظة عليهم".

ثانيًا، على كل صحيفة أن تعرف كيف تروي حكايتها؛ "فعلى أي مؤسسة إعلامية تعتمد أنموذجًا للمحتوى المدفوع أن توضح سبب حاجتها إلى دعم القراء، ويجب صوغ نداء المساعدة بعناية فائقة، أي يجب أخذ رسالة الوسيلة الإعلامية وملكيتها وتاريخها وقيودها في الحسبان".

ثالثًا، يجب أن تضع الشركات التي تعتمد الاشتراكات جمهورها الأساسي في أول أولوياتها؛ "فعلى المسؤولين التنفيذيين في وسائل الإعلام النظر في سلوك قرائهم، وأن يكون هدفهم الأول والأهم معرفة عادات هؤلاء الإخبارية، وكيفية تنظيم نظامهم الإخباري، وأي محتوى يبحثون عنه".

النسخة الورقية تساعد

رابع السمات التي يتحدث عنها شواريز في بحثه هو الآتي: أفضل الصحف ما يركز على منتوجاته الرقمية. يقول: "لا يزال معظم المنافذ الإخبارية القديمة يحصل على معظم إيراداته من الصحف الورقية. إلا أن أولويتهم القصوى هي تحسين خدماتهم الرقمية، وهذه ليست مهمة سهلة. فولاء القراء ليس ثابتا ولا موحدًا، ويمكن أن تختلف أنماط استهلاكهم. وغالبًا ما تعني الجودة مسائل مختلفة لقراء مختلفين، وكل قناة تتطلب اعتماد لغة مختلفة ومهارات مختلفة".

خامسًا، إن يخوض المستخدم تجربة جيدة مسألة ضرورية للنجاح؛ "فالمؤسسات الإخبارية تدرك أن المحتوى هو جانب واحد من جوانب القيمة الإخبارية الخاصة بها، أن تجربة المستخدم حين الدخول إلى صفحاتها مهمة جدًا، لا سيما على الهاتف المحمول".

سادسًا، القراء يقدرون المحتوى الذي يمكنهم قراءته حتى سطره الأخير؛ أي "يحب القراء أن يشعروا بشعور الإنجاز الذي يأتيهم عند انتهائهم من قراءة الإصدار اليومي كله. تراهن المؤسسات الإخبارية على مسألة الطبعات المتعددة وسيلة لإعادة تكوين العادات الإخبارية القديمة".

سابعًا، ينبغي ألا تكون النسخة الورقية محط اهتمام كبير، لكنها قد تساعد النسخة الرقمية؛ "فربما تكون النسخة الورقية جيدة جدًا أو لا طائل وراءها لعدد كبير من الجمهور الرقمي، لكن لا يزال ممكنًا أن تكون هذه النسخة الورقية إضافة مهمة اليوم. فالصحف تواجه معضلة استراتيجية: معظم نموها يأتي من النسخة الرقمية، لكن معظم إيراداتها لا يزال يأتي من النسخة الورقية".

الصعوبة عدوك

ثامنًا، أفضل المؤسسات التي تعتمد الاشتراكات تستمر في تجاربها في مسألة التسعير؛ "فالاشتراكات الرقمية تتطلب عقلية مختلفة أكثر انفتاحًا لتجربة حزم الاشتراك. ربما تكون الخصومات ومسألة التجريب المجاني من الأدوات المهمة في هذا الإطار، لكن يجب أن توضح المؤسسة الإخبارية لقارئها أن العلاقة بينهما قائمة على الدفع مقابل المحتوى".

تاسعًا، ليست المسألة هنا محصورة في المحتوى المفتوح مقابل المحتوى المقفل؛ "فالفارق بين نماذج العضوية والاشتراك غير واضحة تمامًا، ويجب إيضاحها بدقة".

عاشرًا، الصحافة استراتيجية استحواذ كبيرة؛ "فالعضوية والاشتراك ليسا نوعين من البيع القائم على الدافع. يبدأ القراء في الدفع بعد تعاملهم مع مؤسسة إخبارية بانتظام فترة طويلة، وإنشاء عادات إخبارية هو أفضل طريق للحصول على المشتركين وتقليل عدد المغادرين".

حادي عشر، اعرف عدوك.. الصعوبة عدوك؛ "فيجب أن يكون الاشتراك في وسيلة إخبارية رقمية أو المساهمة فيها (التبرع لها) غايةً في السهولة، ويجب أن تستقي الصحف صفحات من شركات التكنولوجيا الناشئة تتبنى أنظمة دفع خالية من الصعوبة أو الإبهام، وبالتالي يجب أن يكون أي شخص قادرًا على الاشتراك في ثوانٍ، وقادرًا على إلغاء اشتراكه بسهولة ويسر".

ثاني عشر، قوة التأثير في القارئ أهم كثيرًا من جذبه إلى الاشتراك؛ "فإن اجتذاب الآلاف من المشتركين الذين يغادرون اشتراكهم بعد أشهر قليلة ليس طريقًا مستدامة لأي مؤسسة إخبارية. ولهذا السبب، يجب أن يدير استراتيجيات الاستحواذ والتأثير فريقٌ واحد، علمًا أن قنوات الاستحواذ القذرة تجذب النوع الخطأ من القراء، وتنتج معدلات عالية من التذبذب".

أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن موقع "معهد رويترز للصحافة". الأصل منشور على الرابط:

https://reutersinstitute.politics.ox.ac.uk/risj-review/how-build-good-reader-revenue-model-lessons-spain-and-uk