تقود الصين حملة علاقات عامة غير مسبوقة في التاريخ محققة اختراقات مؤثرة مرحليا على الرأي العام الغربي، وذلك عبر منصات إعلامية تقليدية وغير تقليدية، وقيادة فاعلة من قبل مؤسس شركة "علي بابا" الشهيرة.

ورغم أن دول الإتحاد الأوروبي تعيش صراعا قويا مع كورونا أشغلها عن متابعة "الحملة الصينية"، بدأت شخصيات بارزة في الدول الأوروبية، فضلا عن وسائل الإعلام الأوروبية، بإثارة الشكوك حول أهداف "الخطاب" الصيني وكشف أسرار "تغريدات الشكر للصين".

حملة العلاقات العامة.. بدايتها وقيادتها ووسائلها

وسط انشغال العالم بمحاربة وباء كورونا، قرر رجل الأعمال الصيني الشهير ومؤسس موقع علي بابا للتجارة الإلكترونية، جاك ما، إنشاء حساب له على تويتر يوم 16 مارس 2020 بتغريدة تعلن إرسال شحنة كمامات من الصين إلى الولايات المتحدة مرفقة مع "تمنياته بالتوفيق للأصدقاء الأميركيين".

يحمل انضمام جاك ما المتأخر إلى عالم تويتر، المنصة المفضلة للرئيس الأميركي وزعماء العالم للتغريد بعيدا عن النصائح البيروقراطية لمستشاريهم، دلالات كبيرة؛ أبرزها عودة الصين بقوة إلى العالم عبر "دبلوماسية الكمامات" وحملة علاقات عامة غير مسبوقة في تاريخ الصين والعالم، فهي المرة الأولى في تاريخ العلاقات العامة التي تكون فيها الحملة عبر أسطول جوي ضخم، ومساعدات أو مبيعات طبية إلى 140 دولة حول العالم.

يقود جاك ما، الذي استقال من رئاسة مؤسسة علي بابا العام الماضي، مؤسسة خيرية تحمل اسمه والتي تتولى - بالتعاون مع مؤسسة علي بابا - إدارة حملة العلاقات العامة لتحسين صورة وسمعة الصين بعد كارثة ووهان.

وبينما كان خبراء الصحة العامة والأطباء حول العالم يحللون سبب تأخر فيروس كورونا في الوصول إلى القارة الأفريقية، أعلن جاك ما أن الفيروس على بعد خطوة واحدة من القارة، قبل أن يصدر عن منظمة الصحة العالمية أي تقرير بهذا الخصوص. وجاء إعلان جاك ما في نفس اليوم الذي افتتح فيه حسابه على تويتر، واعدا بإرسال كمامات ومعدات طبية الى 54 دولة في أفريقيا.

تجدر الإشارة إلى أن مؤسسة علي بابا (قيمتها 480 مليار دولار) ليست مجرد منصة للتجارة الإلكترونية بل تمتلك أيضًا أسطولًا جويا يتألف من أكثر من 200 طائرة تتبع للجناح اللوجستي للشركة والمعروف باسم "تساينياو"، وهو الجناح الذي يتولى نقل المساعدات والمبيعات الطبية الصينية إلى أفريقيا وأوروبا وآسيا، بالتعاون مع شركات نقل أخرى في العالم.

وبحسب تقارير مؤسسة "جاك ما" فقد قامت المؤسسة بالتعاون مع مؤسسة "علي بابا" وجناحها اللوجستي "تساينياو" بنقل 100 مليون قطعة من اللوازم الطبية الحيوية لأكثر من 140 دولة بالتعاون مع 40 شركة نقل في العالم.

كما نشرت المؤسسة كتيّبا باللغات العالمية الرئيسية ومنها العربية، حمل عنوان " كوفيد 19 - دليل الوقاية والعلاج"، يمكن تنزيله أو قراءته على مواقع المؤسسة.

تأثير الحملة على الرأي العام

وفيما يبدو أن الحملة الصينية حققت اختراقات مرحلية، ومنها الإشادات الإيطالية بالدعم الصيني والانتقادات لغياب الدور الأوروبي. كما خلقت الحملة نوعًا من التوتر الغربي-الغربي، وسط سباق أوروبي أميركي لشراء الكمامات الصينية، كما حصل بين باريس وواشنطن حيث قامت الأخيرة بدفع مبالغ أكبر للصينيين مقابل الحصول على شحنات كانت باريس قد طلبتها أولا، وهذا يشير إلى أن المعدات الصينية ليست كلها مساعدات وإنما مبيعات، ولمن يدفع أكثر، كما لو أنه "بازار" مفتوح.

وفي هذا السياق رفع موقع علي بابا أسعار مواد التعقيم بشكل كبير حيث يبلغ سعر علبة ديتول نحو 20 دولارًا.

وكانت تأثيرات الحملة الصينية واضحة من خلال تصريحات عدد من المسؤولين الأوروبيين، حيث صرح رئيس الوزراء المجري عند وصول شحنة مساعدات إلى بلاده "يوجد نقص في كل شيء في الغرب، والمساعدة التي نستطيع الحصول عليها هي من الشرق" وهو التصريح الذي بثه الإعلام الصيني.

وانتشرت رسوم الكاريكاتير المعبّرة عن غضب الحكومة الإيطالية تجاه الإتحاد الأوروبي، والتي تصور "مساعدة الصين لإيطاليا بينما بقيت أوروبا على الحياد".

وتتجنب الدبلوماسية الصينية، ممثلة بوزارة الخارجية، أن تعطي صفة سياسية لمساعداتها الإنسانية، ولكنها لم تتأخر بالرد على بعض التقارير الغربية بأن قسما من المعدات والكمامات الصينية كان فعلا "صناعية صينية" حيث وصلت فاسدة الى أوروبا، لتقول "عندما بدأ الوباء في الصين لأول مرة، كان بعض المواد التي تلقيناها من الخارج دون المستوى أيضًا، لقد اخترنا أن نؤمن بالنوايا الحسنة لتلك البلدان".

وعند سؤال الخارجية الصينية حول مدى صحة استخدام المساعدات الإنسانية لتوسيع نفوذ الصين السياسي، قالت الخارجية "هل تفضلون أن تقف الصين غير مبالية إزاء ما يحصل".

صحوة الإتحاد الأوروبي

يبدو أن الأوروبيين، على أرفع المستويات الحكومية والشعبية والإعلامية، يدركون أن الصين تقود حملة علاقات عامة وبدأت ردود أفعالهم تظهر بالتدريج، وقد تتضح معالمها أكثر بعد استعادة الوعي عقب الضربة الأليمة التي ألمت بهم.

وترفض دول أوروبية عديدة الانتقادات الموجهة للاتحاد الأوروبي خاصة أن فرنسا كانت أرسلت مليون كمامة إلى إيطاليا في وقت مبكر، معربين عن استيائهم من تغييب ما قامت به أوروبا إزاء الصين في أزمتها عندما منحت مع الولايات المتحدة 30 طنا من المعدات الطبية للصين.

وحديثا بدأت وسائل الإعلام الإيطالية تبدي بعض الشكوك حول الصين، حيث اتهمت مواقع إخبارية في إيطاليا الصين ببرمجة تغريدات باللغة الإيطالية.

وفي التفاصيل، أفادت وسائل إعلام إيطالية في دراسة نشرتها بالتعاون مع إحدى الشركات التقنية، أن 46.3٪ من التغريدات التي استخدمت الهاشتاغ #forzaCinaeItalia المعبر عن التضامن الصيني الإيطالي كانت عبر "بوتات الإنترنت". ومعلوم أن "بوتات الإنترنت" هي عبارة عن برمجيات على وسائل التواصل الإجتماعي تتم إدارتها من قبل خوارزمية وليس من قبل المستخدمين الحقيقيين، وتقوم عادة الحكومات بتفعيلها للتأثير في حدث ما كما تشاء، عبر ضخ مشاركات كثيرة من قبل هذا "الروبوت"، وليس الناس الحقيقيين.

وقالت الدراسة أيضا إن الأمر تكرر مع الهاشتاغ الآخر #grazieCina (شكرا للصين)، موضحة أن 37.1٪ من التغريدات كانت عبر برامج بوتات (روبوتات). واللافت أيضا أن حسابات الدبلوماسية الصينية على تويتر، بما في ذلك الحساب الخاص بالسفارة الصينية في إيطاليا، قامت باستخدام فعال لهذه الوسوم.

وقد أوجز وزير خارجية الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، في مدونة له على مواقع الاتحاد الأوربي، الموقف الأوروبي عندما تحدث عن "صراع على النفوذ من خلال سياسة السخاء"، وهو ما يمثل اتهاما مباشرا للصين من قبل أرفع المستويات الأوروبية.

ورغم أن وسائل الإعلام الأوروبية انشغلت تماما بأزمة كورونا داخل كل بلد إلا أن تقارير بدأت تنتشر فيها حول "الخطاب الصيني" والأهداف السياسية للحملة الصينية خاصة أن الكثير من مساعداتها وصلت أولا إلى الحكومات التي كانت قد أيدت خطة الصين الاقتصادية العالمية أي مبادرة "الطريق والحزام" والمعروفة باسم "طريق الحرير".

ويبدو أن الأيام القادمة ستحمل الكثير من المفاجأت الجديدة والتي قد تميط وسائل الإعلام الفرنسية والألمانية اللثام عنها، خاصة عندما تبدأ هذه البلدان بالتعافي التدريجي من الضربة القاسية التي تعرضت لها صحيا واقتصاديا وسياسيا وإعلاميا.