إسماعيل دبارة من تونس: مازالت قضية "صفقة الكمامات" في تونس تثير حبرا غزيرا، رغم تقليل تقرير حكومي من شأن وجود فساد في الصفقة التي تشغل الرأي العام مع تفشي فيروس كورونا المستجدّ.

بدأت القضية عندما كشفت النائبة في البرلمان التونسي عبير موسي، عن استفادة شركة يملكها أحد النواب (وهو عضو في لجنة الصناعة في البرلمان) من صفقة لصناعة مليوني كمامة طبية بتعاون مباشر من وزير الصناعة.

وأشارت النائبة حينها إلى أن هذا الأمر "يعدّ خرقاً للنظام الداخلي للبرلمان في فصله 25 الذي ينص على منع نواب الشعب من إبرام صفقات تجارية مع الدولة أو الجماعات العمومية والمؤسسات والمنشآت العمومية".

وعلى الفور، تولت "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد" وهي هيئة دستورية، الموضوع، مؤكدة وجود "شبهة تضارب مصالح وتسريب معلومة ممتازة".

"الهيئة العامة لمراقبة المصاريف العمومية" (حكومية) قامت بدورها وبإذن من الوزير المكلف بإصلاح الوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد بالتدقيق في الصفقة وأصدرت ملخصا في ذلك نشر يوم أمس الاثنين.

اخلالات لا ترتقي إلى "فساد"

يخلص التقرير الأولي لهيئة "مراقبة المصاريف العمومية"، والذي اطلعت "إيلاف" على نسخة منه، إلى أن قيام وزير الصناعة بالاتفاق مباشرة مع احد المزودين لصناعة الكمامات هو تصرف مخالف للصيغ القانونية، ويقلل من شأن مزاعم الفساد التي أشارت اليها أكثر من جهة.

وخلص التقرير الصادر في 3 صفحات إلى وجود "اخلالات ونقائص شابت الاعمال التحضيرية لتصنيع كمية من الكمامات غير الطبية" وذلك اثر اجراء اعضاء فريق الهيئة لسماعات واعمال تحرّ واستقصاء للتثبّت من مدى صحة شبهة تسريب معلومات حول طلب تصنيع كمامات غير طبية طيلة الفترة الممتدة من 17 الى 23 أبريل الجاري.

يشدّد التقرير على أنّ قيام وزير الصناعة "شفاهيا" بالاتفاق مباشرة مع احد المزودين لتسريع انتاج دفعة اولى بـ 2 مليون كمامة عبرت عن حاجتها اليها وزارة التجارة هو “تصرف مخالف للصيغ القانونية و الترتيبية للشراءات والطلبات العمومية وخاصة المنافسة والشفافية والمساواة مع غياب صفة المشتري العمومي".

وجاء في نتائج المهمة الرقابية أيضا ان تعدد اللجان أدى الى "تشتت المسؤوليات وتداخلها وصعوبة امكانية مساءلة الاطراف المتدخلة" فضلا عن عدم تكليف الصيدلية المركزية مباشرة بأن تكون المشتري العمومي لهذه الطلبية.

إلى ذلك، يقدم الفريق الرقابي ست توصيات في مقدمتها تكليف الصيدلية المركزية باقتناء الكمامات بمقتضى مراسلة من وزير الصحة.

ومن التوصيات ايضا "اشهار مسار اقتناء هذه الكمامات من الصيدلية المركزية للرأي العام لتصحيح كل الملابسات التي صاحبت التصرف في موضوع هذه الكمامات وتكليف لجنة مضيقة سواء بوزارة الصحة او وزارة الصناعة تتولى متابعة عملية تزويد الصيدلية المركزية وتسهيل العقبات في تعاملها مع المزودين".

غير مقنع؟

يثار جدل كبير في تونس إلى اليوم بخصوص قضية الكمامات، وصل حد مطالبة وزير الصناعة صالح بن يوسف بالاستقالة من منصبه، ما دفع الوزير للاعتذار للتونسيين في جلسة عامة للبرلمان.

فيما طالبت أحزاب بضرورة اقالة وزير الصناعة ومحاسبة النائب المورط في شبهة فساد في ما يتعلق بصفقة الكمامات، على غرار الحزب الجمهوري، فقد أبدت منظمات من المجتمع المدني وناشطون عدم رضاهم على التقرير الأولي الصادر عن "هيئة مراقبة المصاريف العمومية" واعتبروه "غير مقنع".

وسبق لرئيس الحكومة التونسية الياس الفخفاخ أن دافع عن وزير الصناعة خلال حوار مع التلفزيون الرسمي، ونفى وجود فساد قبل حتى اجراء تحقيق مستقل.

وصبّ ناشطون جام غضبهم على محمد عبو، وهو وزير الدولة لدى رئيس الحكومة المكلف بالوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد، والذي قال إنه "لا توجد شبهات فساد في ما يخص قضية "صفقة الكمامات الطبية"، مشيرا إلى أن الأمر يتعلق "بإخلالات قانونية" فقط.

وقال عبو، في تصريح لإذاعة محلية يوم الإثنين، إنه لا يمكن الحديث عن "فضيحة كمامات" أو فساد أو استفادة مادية من الصفقة، لافتا إلى أن الهيئة العامة لمراقبة المصاريف العمومية رصدت في تقريرها الكثير من الإخلالات المرتبطة أساسا بقانون المنافسة وذلك بخرق التراتيب الجاري بها العمل، لكن ليس بغاية تحقيق مكسب لأطراف دون غيرها.

التجاوزات في وادٍ... والتوصيات في وادٍ آخر

استنكرت منظمة "أنا يقظ" المتخصصة في رصد ملفات الفساد، التصريحات التي جاءت على لسان الوزير محمد عبو، و"ما جاء من مقترحات في تلخيص المهمة الرقابية التي تتضارب ولا تنسجم مع ما سبقه من تفصيل للمخالفات والتجاوزات التي رافقت الصفقة موضوع التقرير".

واعتبرت المنظمة في بيان تلقت "إيلاف" نسخة منه أنّ ما رصدته "هيئة مراقبة المصاريف العمومية" من تجاوزات وما اقترحته من توصيات "لا تتماشى مع فداحة الأخطاء التي قام بها وزير الصناعة".

وذكّرت "أنا يقظ" الوزير عبو بأنه اعترف بوجود الكثير من الإخلالات وخرق جملة من التراتيب منها ما يتعلق بخرق قانون المنافسة والاضرار بمبدأ المساواة وحرية المنافسة، بالاضافة إلى خرق الدستور والنظام الداخلي لمجلس نواب الشعب وقانون التصريح بالمكاسب والمصالح ومكافحة الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح عند محاولة التعاقد مع نائب بمجلس نواب الشعب، وذكّرته كذلك بأنه اعترف بوجود قرائن على تسريب وزير الصناعة لمعلومة ممتازة عبر الهاتف للمُصنّع والتي من خلالها أخذ علما بالمقتضيات الفنية والسعر بصورة استباقية مما أتاح له القيام بعملية شراء كميات كبيرة من القماش وسحبها من السوق.

لا لتبيض الفساد

وخلص بيان المنظمة الرقابية إلى أن "كل ما سبق ذكره من أفعال على لسان السيد وزير إصلاح الوظيفة العمومية وبقلم السادة المكلفين بمهمة التفقد (يعتبر) فسادًا وفق ما جاء في الفصل الثاني من القانون الأساسي عدد 10 لسنة 2017 مؤرخ في 7 مارس 2017 المتعلق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين".

واستنكرت المنظمة "تبرير كل من رئيس الحكومة ووزير الوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد لجهل الإدارة ممثلة في وزير الصناعة ونائب الشعب بالقانون، اذ لا يعذر الجاهل بجهله للقانون وهي قاعدة تطبق على المواطن البسيط ومن باب أولى وأحرى أن تطبق على الوزراء والمسؤولين".

وطالبت "بنشر تقرير مهمة التدقيق كاملا للعموم مع حجب المعطيات الشخصية إن وجدت وهو ما يقتضيه الحد الأدنى من الشفافية والحوكمة في دولة قوية وعادلة تحترم دولة القانون والمؤسسات"، كما حضت على ضرورة "تسمية الأشياء بمسمياتها وعدم تبييض الفساد والتسامح معه مهما كان مرتكبه".

فساد متأصّل

يشار إلى أنّ شوقي الطبيب، رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في تونس أكد في وقت سابق أن قرابة ملياري دينار تونسي (حوالي مليار دولار) تستنزف من ميزانية الدولة نتيجة غياب الحوكمة والتصرف الرشيد في مؤسساتها.

يأتي هذا في ظل اتهامات للحكومات المتعاقبة منذ 2011 بأنها لم تسع لمحاربة الفساد، بل وعملت على التعايش معه والقبول به.

وأوضح الطبيب خلال مؤتمر صحافي سابق، أنّ "أخطر أنواع الفساد هي المتعلقة بالصفقات العمومية (الحكومية)".

وتأسست الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في تونس، نهاية 2011 بدلا عن "لجنة تقصي الحقائق عن الفساد والرشوة"، التي أنشئت مباشرة بعد الثورة التونسية في 2011.

ولم تحافظ تونس على مرتبتها في التصنيف العالمي لمكافحة الفساد لسنة 2019 الذي تشرف عليه منظمة الشفافية الدولية، وتراجعت بمرتبة واحدة مقارنة بترتيبها في 2018، محتلة المرتبة 74 من مجموع 180 دولة بعد أن أحرزت المرتبة 73.

وأرجعت منظمة الشفافية الدولية تأخر تونس في مؤشر مدركات الفساد لسنة 2019، بالخصوص إلى غياب الإرادة السياسية التي تجلت في تواصل ظاهرة الإفلات من العقاب، وتواصل ظاهرة انتقائية تحريك ملفات الفساد، وعدم تطبيق قانون حماية المبلغين.