سعت الصين منذ الأزمة المالية العالمية في 2008 لتعزيز حضورها أوروبياً عبر منطقة دول أوروبا الوسطى والشرقية. ورغم أن علاقات الصين مع هذه الدول عرفت تدهوراً كبيراً عقب انهيار الأنظمة الشيوعية في عام 1989، إلا بكين لم تتردد بمعاودة التواصل معها مستغلة حاجتها للاستثمارات ودعم اقتصاداتها المتعبة، ما يعطي الصين ورقة قوية في يدها أثناء المفاوضات مع بريطانيا وفرنسا وألمانيا.

كيف خططت الصين لذلك؟ وماذا جرى بالضبط؟ وكيف كان موقف الدول الأوروبية؟ وهل نجحت الصين؟ ومن هي الدول التي حاولت الصين استخدامها مثل "حصان طروادة" لتحقيق خرق كبير داخل أوروبا؟

كورونا... ترحيب بالصين ثم شكوك

كثفت الصين دبلوماسيتها خلال الأشهر الماضية، على نحو غير مسبوق، مستفيدة من انقضاء المرحلة الأولى من وباء كورونا على أراضيها، ثم بدأت تصدير المعدات الطبية إلى أوروبا، مع دعاية واضحة مفادها أن الدعم الطبي هو دليل على صداقة الصين مع أوروبا، مما أدى إلى تحول المساعدات الطبية إلى حدث سياسي داخلي في دول أوروبية مثل صربيا.

حققت المساعدات الصينية ردود فعل إيجابية على الصعيد الأوروبي، لكن عندما بدأت الصين بالتنصل من مسؤوليتها عن انتشار الفيروس؛ من قبيل أنه لم يأت من الصين، ونشأة الفيروس كانت في إيطاليا، أو أن الأميركيين أحضروه إلى الصين، ظهرت الشكوك الأوروبية بالسلوك الصيني.

بعد الأزمة المالية العالمية في 2008 قدمت الصين مع أموالها إلى أوروبا، وشرعت بشراء الشركات الأوروبية التي تعتقد أنه تؤمن لها موطئ قدم على المدى البعيد، وبشكل خاص شركات التكنولوجيا والاستثمارات في البنية التحتية. يخشى الأوروبيون الآن من تكرار هذا السيناريو، لذلك نصحت بروكسل الحكومات الأوروبية أن تقوم بشراء حصص من الشركات المعرضة للانهيار وذلك من منطلق الحمائية للاقتصاد الأوروبي كإجراء مرحلي الآن حتى يخرج الأوروبيون من صدمتهم ويعيدوا بناء علاقاتهم مع الصين بشكل جديد.

بداية الخطة الصينية في أوروبا

كانت أول خطوة صينية عملية بعد الأزمة المالية في 2008 والسنوات اللاحقة دخولها إلى العمق الأوروبي عبر وسط وشرق أوروبا من خلال مبادرة 17+1، وهي مجموعة أطلقتها الصين من أجل التعاون الاقتصادي والاستثمار في هذه الدول التي تأزمت علاقتها مع الصين بعد عام 1989 عندما بدأت التجربة الديمقراطية في هذه البلدان وهو ما أبعد الصين عنها. تضم هذه المجموعة الدول التالية إلى جانب الصين: ألبانيا، البوسنة والهرسك، بلغاريا، كرواتيا، التشيك، أستونيا، اليونان، هنغاريا (المجر)، لاتيفيا، ليتوانيا، مقدونيا الشمالية، مونتينيغرو(الجبل الاسود)، بولندا، رومانيا، صربيا، سلوفاكيا، سلوفينيا.

تقول وسيلة إعلامية حكومية بولندية، نقلا عن خبراء وباحثين، أن الأهداف والأفكار الصينية الأولية افترضت أن منطقة أوروبا الوسطى والشرقية متخلفة اقتصاديًا نسبيًا وتحتاج إلى رأس المال، وبالتالي ستتعاون مع الصينيين - من حيث اقتراض الأموال لتطوير البنية التحتية والاستثمارات الصينية، وكانت هذه خطة اقتصادية تبعتها أهداف سياسية.

يرى المراقبون في دول أوروبا الشرقية أن الخطة الصينية لم تنجح كما خططت لها بكين. وفيما رحّبت دول غرب البلقان، غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بما قدمته الصين وقرروا التعاون معها، تحفّظ الكثير من دول أوروبا الوسطى على التعاون مع الصين لأسباب اقتصادية في المقام الأول حيث اعتبرت أن ما عرضته بكين لم يكن جذاباً.

كذلك لم يتم استخدام القروض الصينية من قبل أي دولة تقريبًا في الاتحاد الأوروبي، باستثناء المجر، كما أن الاستثمارات الصينية في المنطقة - مقارنة باليابانية أو الكورية- بقيت صغيرة، وبالتالي لم تسجل الصين حضورا اقتصاديا حقيقيا. وفي الوقت نفسه، توقع معظم دول المنطقة شيئًا مختلفًا من الصين من قبيل الوصول إلى السوق الصينية، ومصادر تمويل جذابة، واستثمارات متقدمة، ولم يظهر أي من هذا في أوروبا الوسطى على نطاق واسع.

ومن الناحية السياسية، لم تمتثل خطط الصين في المنطقة لقانون الاتحاد الأوروبي كما أن هذا التوسع لم يكن مقبولا بالنسبة للاتحاد ولذلك قوبل بمقاومة شديدة وانتقاد من الإدارة في بروكسل ودول الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك دول منطقة أوروبا الوسطى.

في عام 2018، بدأ الأميركيون يهتمون أكثر بأنشطة الصين في المنطقة ومواجهة النشاط الصيني، ووجدوا أن المنطقة أصيبت بخيبة أمل من الصين لعدة سنوات لذلك كان يسيرا على الأميركيين التصرف.

دخول الصين عبر ثلاث دول

خلق الحضور الصيني في أوروبا الشرقية توترات داخلية، وكانت الصين تنتقي العلاقات مع بلدان محددة تخدم سياستها ضد الولايات المتحدة، وأحيانًا ضد الاتحاد الأوروبي، ومنها صربيا والمجر وذلك لأن البلدين يعترفان بالصين كأداة مهمة في السياسة الخارجية وليس فقط السياسة الاقتصادية.

ومن الأمثلة البارزة في المنطقة حول الاستقطاب الداخلي بخصوص الصين الجمهورية التشيكية حيث توجد قوى تنتقد الصين بسبب انتهاكات حقوق الإنسان وتبني علاقات مع تايوان، وهذا أمر غير مقبول بالنسبة لبكين. وهناك دوائر صحفية تنتقد بشدة النموذج التشيكي للتعاون مع الصين.

من ناحية أخرى، هناك دوائر تجارية وسياسية مقربة من الحزب الاشتراكي الديمقراطي التشيكي، الذين أقاموا علاقات وثيقة للغاية مع الصين. وبناء على دعوتهم، بدأت الصين في الاستثمار في جمهورية التشيك، حيث يمتلك صندوق الاستثمار الحكومي الصيني عددًا من الأصول في جمهورية التشيك. ظهرت معلومات مؤخرا تفيد بأن الصين قررت شراء حصة في مجموعة إعلامية كبيرة في التشيك.

لذلك، يبدو الاستقطاب في جمهورية التشيك إزاء العلاقة مع الصين قويا للغاية، وأصبحت الصين عنصرًا في الصراع السياسي الداخلي في البلاد، وهذا مثال كبير على التأثير الصيني.

لكن الوضع في المجر مختلف تمامًا فهي الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي تحصل على قروض كبير من الصين بشروط صينية. في هذا السياق، يبدو أن هذا الأمر مرتبط بقرار رئيس الوزراء فيكتور أوربان لأن الوجود الصيني يمنحه وضعا أفضل في المساومة مع الأوروبيين والأميركيين.

وأما المثال الثالث فهو صربيا، حيث الوجود الصيني الاقتصادي مهم للغاية. حاول رئيس صربيا ألكسندر فوسيتش، الذي يواجه وضعًا سياسيًا واقتصاديًا أكثر صعوبة من دول الاتحاد الأوروبي، استخدام الصين للتأثير على أوروبا من أجل الحصول على مشاركة أكبر للاتحاد الأوروبي في البلقان. في صربيا، استولت الصين على مصنع صهر الصلب، من بين أمور عديدة أخرى، والذي كان عرضة لخطر السقوط. كما تمول الصين البنية التحتية للسكك الحديدية.

مجموعة 17+1 .. والهدف منها

يرى المراقبون الذين تحدثوا في الإعلام البولندي أن هناك أطروحة مفادها أن خطة الصين عبر 17 + 1 كانت تهدف إلى كسر الاتحاد الأوروبي، ولكن تم تجاوزها لأن التأثير الصيني الحقيقي بقي محدودا، كما تجنبت دول عديدة بالمنطقة أن تكون وكيلا لنفوذ صيني.

ويعتقد المراقبون أن الهدف البعيد للصين في الإتحاد الأوروبي هو العلاقات مع العواصم الكبرى أي باريس وبرلين، وقبلها لندن قبيل خروجها من الإتحاد الأوروبي، ولذلك تبدو مجموعة 17 + 1 ورقة مساومة صينية في المحادثات، وفي المقام الأول مع برلين.

أردات الصين، من وراء إطلاق هذه المجموعة الإقليمية، أن تؤثر على برلين وتخلق لديها قلقا من أن هذه المجموعة (17+1) أمر خطير للغاية ويقود لتقسيم الاتحاد الأوروبي، ثم يستخدمون هذه الورقة عند التفاوض مع ألمانيا بشأن الوصول إلى الأسواق والتكنولوجيا والسياسة الأوروبية. على سبيل المثال، أثيرت تساؤلات حول سبب سفر وزير الخارجية الصيني إلى برلين مباشرة قبل قمة مجموعة 17+1 حيث ناقش مع نظرائه الألمان تعاون بكين مع دول وسط وشرق أوروبا.

يعتقد الخبراء في دول أوروبا الشرقية أن سياسة الصين هي "فرق تسد" لكسر وحدة الإتحاد الأوروبي عبر تقديم العروض لدول مجموعة 17+1 لكن الهدف البعيد هو التأثير على ألمانيا وفرنسا بهدف حصد المزيد من الانتصارات الاقتصادية في أوروبا.

ولم تكن مجموعة 17+1 المبادرة الصينية الوحيدة على الصعيد الأوروبي لكنها الأكبر. تجدر الإشارة هنا إلى أن عددا من الدول الأوروبية والشخصيات السياسية كان قد أيّد خطة الصين الاقتصادية العالمية أي مبادرة "الطريق والحزام" والمعروفة باسم "طريق الحرير"، الملف الذي كان أيضا تحت مراقبة بروكسل عن كثب، كما تم التعبير عنه في رسوم كاريكاتير تناولت القلق الأوروبي من دب الباندا الصيني على هيئة حصان طروادة وهو يحاول اختراق أوروبا باسم مبادرة "الطرق والحزام".

ويبدو أن "حصان طروادة الصيني" حقق خروقات مرحلية في بعض البقاع الأوروبية، وهي خروقات عززتها رغبة تيارات وأحزاب أوروبية بالدخول بعلاقات مع الصين على حساب العمق الأوروبي كما فعلت أحزاب إيطالية مؤخرا منتقدة "تأخر" الإتحاد الأوروبي في تقديم العون لها لمواجهة وباء كورونا. ومن جهته، يدرك الإتحاد الأوروبي هذا الأمر، ولذلك شكّل اعترافه بالخطأ واعتذاره، متبوعا بدعم مالي كبير، حركة مدروسة بعناية وجهت ضربة مباشرة للحملة الصينية في أوروبا.

من جهتهم يرى المدافعون عن التوسع الصيني في العالم أن هذه الأخيرة لها كامل الحق في البحث عن مصالحها التجارية والإقتصادية بالطرق التي تناسبها، كما أنها لم تستخدم القوة والسلاح والترهيب لغزو الأسواق وعقد الصفقات التجارية، بل غالبا الدول الغربية وشركاتها هي التي تذهب إلى الصين تهربا مع الضرائب وبحثا عن يد عاملة رخيصة غير محمية بحقوق والتزامات تكلف خزائن الدول الغربية الكثير من الأموال.