دعا الأمير الحسن بن طلال رئيس منتدى الفكر العربي وراعيه إلى احترام القدس بوصفها الملتقى الإنساني المؤثر على الصعيدين القيمي والأخلاقي.

إيلاف من لندن: خلال مشاركته في اللقاء الذي نظمه "منتدى الفكر العربي" عبر تقنية الاتصال المرئي، يوم الأربعاء الماضي، حول "صورة القدس في المخطوطات الأوروبية والإسلامية والعربية – المخطوطات الجغرافية أنموذجاً"، دعا الأمير الحسن إلى رؤية متكاملة لإدارة الفضاء الديني للقدس، توظّف طرق البحث والرصد لتعدد الأفكار والمدارس المختلفة.

أشار الأمير الهاشمي إلى أن الحديث عن المستقبل يتطلب وجود الميزان الذي يمكّن من الحفاظ على الاستقرار الفكري وبما لا يسبب الضرر للمدينة والعرب المقدسيين من خلال التعرض لعمليات الانتقام كما حدث منذ أول أيام الاحتلال تجاه حي المغاربة.

خلال الندوة قدم فيه المؤرخ محمد هاشم غوشه مدير عام مركز الحسن بن طلال لدراسات القدس وعضو المنتدى، محاضرة في هذا الموضوع، كما شارك في المداخلات باللقاء الذي أداره أمين عام المنتدى محمد أبوحمور، الباحثة في تاريخ القدس وفلسطين وعضو المنتدى من البحرين نائلة الوعري، وأستاذ دراسات التاريخ الإسلامي في جامعة الكويت نعمان جبران، ورئيس جامعة أحمد يسوي التركية الكازاخستانية الدولية جنكيز تومار، والباحث في الآثار الإسلامية فرج الحسيني من مصر.

قلب العالم القديم

أوضح المشاركون أهمية صورة القدس في المؤلفات الجغرافية والرحلية والخرائط بوصفها قلب العالم القديم والمدينة المقدسة مركز العالم، والتي اتسمت في مختلف عصورها بالقداسة والتنوع، وأكدوا أن خرائط القدس تعدّ مصدراً أساسياً لمعرفة معالمها في مختلف المراحل التاريخية.

وأشار مشاركون إلى أن الخرائط الغربية صورت القدس كنواة للعالم، كما ظهر مفهوم "القدس السماوية" الذي دلَّ على إلغاء فكرة الحاجة للحروب للوصول إلى الأماكن المقدسة، وبيّن بعض المشاركين الاهتمام المعاصر بالقدس وتاريخها، ومن ذلك مثلاً تزايد الاهتمام البحثي كما يتمثل في مؤلفات تركية حديثة بالاعتماد على مصادر الأرشيف العثماني، وبيّن بعض آخر الفروقات بين الخرائط الجغرافية الأوروبية والإسلامية والعربية.

وأكدوا أن الدور الفكري هو جزء من حماية الحقوق والمقدسات في القدس في ظل الرعاية الهاشمية والترابط المصيري بين الأردن وفلسطين والمسؤولية التاريخية والقومية والإنسانية.

إذ ذاك، أوضح الأمير الحسن بن طلال أن الموروث يؤدي إلى الحضارة مقابل الهمجية، وأن وسطية القدس تدعونا إلى تلمس مفاهيم التاريخ على أساس العِبر وليس على أساس استمرار الظلامة ومفهوم القلعة العازلة.
كما دعا إلى نظرة تجاه عالمية القدس، وإيجاد صيغة لاستعادة احترام الإنسان واحترام القدس بوصفها الملتقى الإنساني الذي لا يتأثر بيوميات السياسة، ولكن يؤثر على الصعيد القيمي والأخلاقي، وإلا لن نرى في المستقبل سوى التكرار لمآسي الماضي.

القدس في الضمير

أكد الأمير الحسن أن جوهر مشروع "القدس في الضمير"، الذي دعا إليه سموه قبل عقود بمشاركة المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين، يعنى بالإنسان العربي والفلسطيني المقدسي الذي يعيش الأزمة المستمرة داخل المدينة المقدسة، وكذلك مستقبل هذه المدينة وهويتها ودورها ودور الإنسان في القدس.

أشار إلى أن المرصد الحضري الذي نريده، ومركز الحسن بن طلال لدراسات القدس ما بعد الدكتوراة، كما المركز الإسباني في الطنطور منذ سنة 1966، من شأنها أن تجسّر من خلال الدراسات المسافات بين أتباع الديانات السماوية الثلاث للحفاظ على الميزان الفكري الثقافي، والفكرة الأساسية هي التعلم من خلال فهم موروث الآخر، وأن بناء الثقة يقود على الأقل إلى الحوار القائم على القيم المشتركة.

وقال إن الأزمة هي أزمة قيم، فموضوع حقوق الإنسان والإسلام المعاصر كما يصورونه في الغرب، يدعو للتساؤل هل هي مسألة قيم أم هي مسألة هدف سياسي جديد بعد فشل الشيوعية النووية من ترهيب العالم لنصبح نحن مكان الاستهداف؛ مشيراً إلى أن مسألة الحوار لا تُبنى على فكرة عائمة مسبقة.

مساهمة الأوروبيين

تناول محمد هاشم غوشه مدير عام مركز الحسن بن طلال لدراسات القدس في محاضرته، مساهمة الأوروبيين في الكتابة عن القدس في الفترة التي سبقت دخول الإسلام، ومن أوائل المخطوطات الأوروبية في هذا المجال مخطوطة لاتينية تحمل عنوان "الأماكن المقدسة" كتبها أسقف فرنكي يُدعى أركولف، وصف فيها رحلته إلى القدس في سنة 679م. وكان أبرز ما تركه لنا أركولف هو الرسم شبه الدائري للقدس بأسوارها وبواباتها، إضافة إلى مخطط أفقي لكنيسة القيامة والقبر المقدس.

أوضح غوشه أن مكانة القدس الدينية والاستراتيجية تتمثل في أعمال الجغرافيين العرب والمسلمين، ومنها على سبيل المثال رسم الجغرافي المسلم الإصطخري خريطةً لفلسطين والقدس في كتابه "المسالك والممالك" سنة 340هـ/952م، ورسم الجغرافي محمد الإدريسي الهاشمي القرشي خريطةً للعالم ومن ضمنها فلسطين والقدس أرفقها بكتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" سنة 548هـ/1154م.

أما بعد الاحتلال الفرنجي للقدس فقد بدأ نمط جديدٌ من الخرائط يُظهِر القدس كمدينة دائرية مسوّرة متعامدة تتوسطها قبة الصخرة المشرفة، بالإضافة إلى كنيسة القيامة، وأسوار القدس. ومنذ ذلك الحين، ظهرت احدى عشرة خريطة أخرى للفرنجة تعتمد على الخريطة الأم وتُظهر مدينة القدس بشكلٍ دائري.

مركز العالم

بيّن غوشه أن وجود القدس في قلب العالم القديم شكّل فرصةً للجغرافيين ورسّامي الخرائط لإظهار المدينة المقدسة في مركز العالم، معتمدةً فيما يبدو على خريطة مأدبا الفسيفسائية المكتَشفة في كنيسة الروم الأرثوذكس في سنة 1884م، أو لربما على خرائط سابقة نشرها بطليموس في القرن الثاني الميلادي. فخرجت من دير سانت سيفر في فرنسا إلينا خريطة دائرية للعالم ترقى إلى سنة 1150م تُظهر القدس في مركز الكرة الأرضية.

وأشار غوشه إلى أن بانوراما القدس كما رسمها إرهارد ريويتش من على جبل الزيتون كانت أول رسمةٍ بانورامية مطبوعةٍ ضمن كتاب عن فلسطين بعد اختراع جوتنبيرغ للطباعة.

كما ساهم الرحالة الأتراك في توثيق فلسطين والقدس من خلال أعمالهم التاريخية، ومن أبرز هؤلاء المؤرخ والجغرافي أوليا جلبي في القرن السابع عشر الميلادي الذي نشر وصفاً للمدينة المقدسة في كتابه "سياحتنامة" بعد زيارته لها.

هناك مئات من الكتب المطبوعة في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين عن القدس وفلسطين، مع الإشارة إلى خرائط بيريه جيكوتين التي ظهرت كأول خرائط تفصيلية لفلسطين ومن ضمنها القدس بعد فشل الحملة الفرنسية على مصر وفلسطين في سنة 1799م، فضلاً عن دور صندوق استكشاف فلسطين في التوثيق الجغرافي للقدس وفلسطين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، وكذلك دور الجمعية الألمانية لتوثيق فلسطين حيث نشر غوتليب شوماخر خرائط تفصيلية مهمة.

القداسة والتنوع

من جهته قال الأمين العام للمنتدى محمد أبو حمّور في كلمته التقديمية: إن المصادر التاريخية ترى في القدس مدينة القداسة والتنوّع وموقعاً استراتيجيا منيعاً، ونقطة الترابط بين بلاد الشام ومصر، وظلت قبلة للحجاج من أتباع الديانات السماوية الذين يأتونها من كل أنحاء العالم.

أضاف أبو حمور أن برنامج "القدس في الضمير" الذي يرعاه الأمير الحسن بن طلال يهدف إلى إبقاء ذاكرة الأمة حيّةً تجاه القدس ومقدساتها وكرامة الإنسان والوطن الفلسطيني، وأن الدور الفكري هو جزء من حماية المقدسات والحقوق العربية الإسلامية والمسيحية، وتعبير عن الترابط المصيري بين الأردن وفلسطين في ظل الرعاية الهاشمية للمقدسات والمسؤولية التاريخية والقومية والإنسانية تجاه فلسطين وشعبها وأرضها المباركة.

قالت الباحثة في تاريخ القدس وفلسطين وعضو المنتدى من البحرين نائلة الوعري: إنّ الخرائط المكتشفة لمدينة القدس تكمّل عمل الباحثين الجغرافيين من نصوص قديمة ورحلات مهمة، مما يؤكد ضرورة البحث عن نصوص تكمّل دور الخرائط المكتَشفة عن القدس، من أجل شرحها وإيضاحها وبيان تاريخها، إضافة لدور هذه النصوص في تحديد ما إذا كانت الخرائط المتوفرة لدينا تعدّ مصدراً أساسياً لمعرفة المعالم المعمارية للقدس في مختلف المراحل التاريخية.

وبيّن أستاذ دراسات التاريخ الإسلامي في جامعة الكويت نعمان جبران، أن بعض الخرائط الدائرية التي تصوّر القدس تسمى خرائط الـ TO، وهي خرائط يقسمها صليب غير مكتمل على شكل حرف T، قد تكون خرائط للعالم والقدس في وسطها.

ويلاحظ من كتب الرحالة الغربيين أن الخريطة بدأت تأخذ شكلاً دائرياً لكن بالصليب الخماسي الذي يرمز لمدينة القدس كنواة للعالم، مما أدى إلى ما يسمّى "القدس السماوية"؛ مشيراً إلى أن هذا المفهوم ظهر مع تراجع المدّ الفرنجي واحتلاله لفلسطين، مما كان يشير إلى فكرة إلغاء الحاجة للحروب للوصول إلى الأماكن المقدسة.

وثائق عثمانية

أشار رئيس جامعة أحمد يسوي التركية الكازاخستانية الدولية جنكيز تومار إلى الإقبال الكبير على البحث عن القدس ووثائقها العثمانية في تركيا وكثرة المؤتمرات والمؤلفات عنها، ومنها "القدس الشريف في دفاتر المهمّة" في تسع مجلدات، و"أطلس ودليل المواقع الفلسطينية في العهد العثماني"، والذي يشمل كل أسماء المواقع والمدن والقرى طبقاً للوثائق العثمانية ووثائق الأوقاف.

وبيّن تومار وجود الكثير من المؤلفات عن القدس في الخرائط والمصورات باللغة التركية وضرورة ترجمتها إلى اللغة العربية، وذلك من أجل التساند فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية لكونها قضية عالمية.

أشار الباحث في الآثار الإسلامية من مصر فرج الحسيني إلى أهمية التفريق بين صنفيّ الخرائط التي رسمت القدس، فالنوع الأول منها هي الخرائط العامة التي تظهر وتبيّن القدس وطرقها ومسالكها وبُعدها عن مصر وبلاد الشام. أما النوع الثاني فهو المصوّرات التي تُظهر المدينة بمنظور عين الطائر وتبيّن تفاصيلاً معمارية معينة لأسوار القدس ومعالمها ومبانيها.

قال الحسيني إنّ المصوّرات التي رسمها الأجانب للقدس رُسِمت بروح أوروبية لا تمس بواقع القدس في العصر الإسلامي، وأن المعمار المصوّر ذو الطابع الأوروبي إنما هو محاولة تقريب صورة القدس لجمهورها الأوروبي وليس وصفاً لها، ولذلك لا يمكن الاعتماد عليها بشكل يقيني للوصف المعماري.

أما المصورات من القرن السابع عشر فهي المصورات التي يمكن الاعتماد عليها، فهي ذات تقريب أوضح لمدينة القدس، من ناحية الأسوار المربعة، والمنطقة غير المنتظمة لأسوار القدس، والفصل بين المسجد الأقصى والمدينة، والتصوير الدقيق لباب الرحمة وهو الباب الذهبي ومقبرة باب الرحمة.