إيلاف من لندن: دعا مفكرون ومختصون في ندوة في عمّان إلى ضرورة تحويل مبادئ التسامح إلى قواعد قانونية وتربوية معترف بها مجتمعياً، وأكدوا أ لا مكان للتسامح في قضايا الظلم والاعتداء لإنه محكوم بالقيم والفضائل الأخرى.

وفي لقاء فكري عربي بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة واليوم العالمي للتسامح، عقد منتدى الفكر العربي يوم الأربعاء 18/11/2020 لقاءً حوارياً عبر تقنية الاتصال المرئي.

وحاضر في اللقاء نائب رئيس جامعة حقوق الإنسان واللاعنف في بيروت وعضو المنتدى من العراق د. عبد الحسين شعبان حول فلسفة التسامح. حيث شارك في اللقاء، الذي أداره الوزير الأسبق وأمين عام المنتدى د. محمد أبوحمّور، عدد من المثقفين العرب بينهم أعضاء في المنتدى ووزراء سابقون هم : د. علي فخرو من البحرين، و د. خالد شوكات من تونس، والمهندس سمير حباشنة، و د. هايل الداوود من الأردن، و د.محمد أحمد المخلافي من اليمن، كما شارك بالمداخلات أمين عام الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي القس د.رياض جرجور من لبنان، والأكاديمي العراقي البروفيسور طه جزّاع .

وتناول المحاضر د.عبد الحسين شعبان معاناة بعض المجتمعات العربية من عنف وإرهاب وتطرف وغيرها، بفعل غياب التسامح وعدم الاعتراف بالآخر وحقوقه، كما تناول نهج الهيمنة والتعصب المتزايدين على المستوى الإقليمي والدولي، وناقش بعض الأسس لبناء التسامح في العالم العربي، ومنها تحويل مبادئ التسامح إلى قواعد قانونية وتربوية يتم الاعتراف والالتزام بها من جانب المجتمع، إضافة إلى قبول التعدد واحترام التعددية وضمان العدل وعدم التمييز، والإقرار بحق الاختلاف واتخاذ موقف ايجابي من الآخرين، وغير ذلك.

مظاهر التمييز
وأكد المشاركون أهمية إلغاء مظاهر التمييز والاستعلاء لأسباب طائفية أو إثنية أو لغوية أو غيرها من أجل تحقيق الكرامة الإنسانية، والعمل على تجنب النزاعات والحروب بما فيها من إزهاق الأرواح والأثمان الباهظة التي تتكبدها المجتمعات نتيجة الكراهية، إضافة إلى وجوب تحويل التعددية في العالم العربي إلى تنوّع بدلاً من الاختلاف، وذلك عبر مأسسة العمل من أجل التسامح وتحقيقه. مع الإشارة إلى أنه ما من مكان للتسامح في قضايا الظلم والاعتداء لإنه محكوم بالقيم والفضائل، والتأكيد بأن غياب الحل العادل للقضية الفلسطينية أدى إلى غياب التسامح والفكر المتطرف. وركّز بعض المشاركين على وجوب تخصيص مناهج لتدريس الفلسفة في المدارس والجامعات للرجوع إلى حالة التعقّل التي تتفق والأديان السماوية والدعوة إلى التحديث والإصلاح والتنوير.

وأشار د. عبدالحسين شعبان في محاضرته إلى أن بعض مجتمعاتنا لا زالت تعاني من ثقافة الحروب "الباردة" و"الساخنة"، ومن أشكال مختلفة ومتنوّعة من النزاعات الأهلية، لأسباب قومية وعرقية وإثنية ودينية وسلالية ولغوية واجتماعية واقتصادية وثقافية وغيرها، وحيث يكون اللّاتسامح والعنف سائدين فإن البيئة الحاضنة ستكون مهيأة للتهميش والإقصاء والإلغاء والتمييز وعدم الاعتراف بالحقوق وبالآخر، تلك التي تزيدها مأساوية الصراعات الدينية والمذهبية والإثنية، وأوضاع اللاجئين والنازحين واستشراء وتفشي ظواهر التعصّب والتطرّف، المُنتجة للعنف والإرهاب، ولا سيّما في ظل ارتفاع منسوب الفقر والتخلّف، إضافة إلى التدخّلات الخارجية ومنها التدخلات العسكرية.

هيمنة التعصب
وبيّن د. شعبان أننا بحاجة إلى التسامح أكثر من أي وقت مضى، فإن العنف واللاتسامح في تزايد غريب في ظل نهج الهيمنة والتعصب على المستويين الإقليمي والدولي، وذلك يستوجب جهداً مضاعفاً لوضع حدٍّ لتلك الظواهر الخطيرة، والأمر بحاجة إلى تراكم وانفتاح وإقرار بالآخر وبحقوقه، خصوصاً إذا ما تحوّلت مبادئ التسامح إلى قواعد قانونية وتربوية، يتم الاعتراف والالتزام بها من جانب المجتمع ووفق مبادئ حكم القانون.

وناقش د. شعبان بعض الأسس لبناء التسامح في العالم العربي، أوّلها نسبية المعرفة التي تتعلق بإقرار مبدأ الخطأ والصواب، والبحث عن الحقيقة والاعتراف بمقاربتها عن طريق النقاش والجدل، ونبذ فكرة العصمة عن الخطأ لأنها تنافي طبيعة البشر. إضافة إلى قبول التعدد واحترام التعددية وضمان العدل وعدم التمييز بين الأفراد في التشريع والقضاء والإدارة، والإقرار بحق الاختلاف واتخاذ موقف ايجابي من الآخرين، وضخّ ثقافة التسامح عبر التعليم من أجل إعلاء شأن القيم الإنسانية وتحقيق المساواة بين الجميع وتوفير البيئة المناسبة للتسامح.

كلمة أبو حمور
وأشار الوزير الأسبق وأمين عام المنتدى د. محمد أبو حمّور في كلمته التقديمية إلى أن أهداف المنتدى ورسالته المتمثلة في مشروعاته الفكرية وأنشطته المتنوعة هي جزء من تفاعل الفكر العربي المعاصر مع القضايا الإنسانية الكبرى لتعزيز القيم التي تحمل معنى التسامح، وفي مقدمتها احترام وقبول التنوع الثقافي، وحرية الفكر والضمير والمعتقد في سياق الاختلاف، وبالتالي فإن ثقافة السلم – كما تؤكد أدبيات الأمم المتحدة في هذا المجال – مصدرها لا ينحصر في الواجب الأخلاقي فقط، وإنما هنالك الواجبات السياسية والقانونية.

وأضاف د. أبو حمّور أنه بهذه المعاني جاء "نداء عمّان" المنبثق عن مؤتمر منتدى الفكر العربي الذي تفضل برعايته والمشاركة فيه سمو الأمير الحسن بن طلال المعظم : "المواطنة الحاضنة للتنوع في المجال العربي : الإشكالية والحل" (10-12/8/2020) ليبحث في الأسس والمشكلات والحلول إزاء المواطنة باعتبارها الركيزة الأساسية للدولة العصرية القائمة على حكم القانون، واحترام حقوق المجموعات الثقافية في مجتمعات التعددية، ما يعني إلغاء مظاهر التمييز والاستعلاء لأسباب طائفية أو إثنية أو لغوية أو غيرها، وتحقيق الكرامة الإنسانية بما يتطابق ومضامين منظومة حقوق الإنسان.

مداخلة فخرو
وأكّد المفكر والوزير البحريني الأسبق د.علي فخرو أن المجتمع العربي يعتبر من أكثر المجتمعات تعددية على المستوى الديني والمذهبي والعرقي والثقافي، ومن المستحيل أن تتعايش مختلف فئات هذا المجتمع بشكل سلمي من دون تسامح. كما أن نهج التسامح من أساسيات الديمقراطية ومن دونه لن يتسنى للقوى السياسية أن تتنافس فيما بينها لتقديم الأفضل لمجتمعاتها، وستنشب الحروب الاستئصالية الدموية. وأشار د. فخرو إلى أن التسامح ليس مطلقاً، فلا مكان له في قضايا الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين وقضايا التمييز بكل أشكاله، وذلك لأنه محكوم بالقيم والفضائل الأخرى.

وأوضح رئيس الجمعية الأردنية للعلوم والثقافة والوزير الأسبق المهندس سمير حباشنة أنه من غير الممكن الحديث عن التسامح مع الآخر دون ترتيب الداخل العربي وتحقيق التسامح فيه أولاً. فلقد تم تحويل التعددية في العالم العربي إلى اختلاف بدلاً عن التنوّع، مما أدى إلى تطور الاختلاف من الكلمة إلى السلاح، ويشهد على ذلك أكثر من قُطر عربي.

وقال حباشنة: إننا لم نفهم العروبة على أنها وعاء حضاري بل على أنها عرق، ولذلك لم تتحقق حالة من الوئام بين العرب وبين أصحاب الأعراق الأخرى في العالم العربي، لكن يمكن حل هذه القضية وغيرها من خلال تجسيد مفاهيم التسامح بين النخب والأفراد، واحترام الآخر كما هو للوصول إلى حالة التعدد وانهاء حالة النزاع الداخلي.

حركات التحديث
وأشار أستاذ القانون والوزير التونسي السابق د. خالد شوكات إلى أن حركة الاصلاح الديني هي مقدمة لسائر حركات التحديث والتنوير والاصلاح، ومنها ينبثق مفهوم فقه التسامح الذي يجب العمل عليه وتأصيله من خلال فقه المعاملات، وهو فقه أصيل ومهم في تراثنا العربي الإسلامي. ينبغي علينا استنطاق نصوصنا المقدسة من قرآن وسنّة في قيمنا وفكرنا وسلوكنا وتعاملنا مع الآخر، من أجل تحقيق العفو الذي حثّت عليه العديد من الآيات القرآنية الكريمة باعتباره أحد أوجه التسامح، إضافة إلى التجاوز وحرية المعتقد وحرية الضمير.

وقال الوزير السابق للأوقاف والمقدسات الإسلامية في الأردن د. هايل الداوود: إن الإسلام دعا إلى اعتماد التسامح منهجاً للتعامل بين الناس، وجاء تطبيقه العملي من خلال السيرة النبوية في مختلف حالات الضعف والقوة. فالتسامح ينسجم مع مبدأ التعددية، وهو مبدأ قرآني قاطع وواضح، حيث أنّ الاختلاف سنّة طبيعية جعلها الله بهدف استثمار طاقات جميع البشر في مختلف توجهاتهم وأفكارهم من أجل إعمار الكون. وأشار د. الداوود إلى أنه لا بد من رد الاعتبار لحالة التعقل في عالمنا العربي، لاتفاق التعقل مع مبادئ الأديان السماوية بما في ذلك قيم الدين الإسلامي، فإن كل ما يتفق مع العقل هو من الدين، وكل ما يختلف مع العقل فهو ليس من الدين.

اللاتسامح
وبيّن أستاذ القانون والوزير اليمني السابق د.محمد أحمد المخلافي أنه في ظل النزاعات والحروب المنتشرة بفعل اللاتسامح، فنحن بحاجة إلى ما هو أشمل من نشر الثقافة والمعرفة خارج إطارهما الحالي المحدود؛ مؤكداً الحاجة إلى جهود مجتمعية وسياسية تقوم على تحويل الرؤى والتصورات النظرية إلى مؤسسات فاعلة، تتبنى التسامح وتعمل من أجله ومن أجل حماية المجتمع، من خلال وسائل تواصل جماهيرية أكبر من وسائل التواصل الاجتماعي كالتلفزيون والإذاعة.

وأوضح أمين عام الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي من لبنان القس د. رياض جرجور، أن التسامح من الفضائل التي تمنح الإنسان القوة والقدرة على التوازن والمحبة، وتجعله شخصاً اجتماعياً قادراً على الاختلاط مع الآخرين وتقبّل عيوبهم وتفهّم طباعهم، وأن التسامح يوفّر نفقات الغضب وتكاليف الكراهية وإزهاق الأرواح، التي تشهدها الشعوب ذات ثقافة العنف والكراهية والانتقام المهيمنة في محاولة إلغاء الآخر. وأشار د. جرجور إلى أن البعض يعتقد بأن فكر التسامح غير ممكن، وبأنه انكسار وهزيمة، وهنا تكمن أهمية نشر فكر التسامح عند الشعب، خارج إطار الندوات والأنشطة.

القضية الفلسطينية
وأشار الأكاديمي العراقي البروفيسور طه جزّاع إلى أن غياب الحل العادل والمنصف للعرب والفلسطينيين فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية لفترة زمنية طويلة أسهم في غياب التسامح في المنطقة العربية وهيّأ بيئة ملائمة لنشوء فكر متطرف مع مرور الزمن. إضافة إلى السياسات الغربية والتدخلات الأجنبية التي زادت الطين بلّة. وركّز البروفيسور جزّاع على أهمية إحياء الفلسفة وتعميق الفكر الفلسفي العلمي المنطقي، من خلال تخصيص مناهج لتدريس الفلسفة في المرحلة الثانوية، وفي الجامعات في الأقسام العلمية والانسانية على حد سواء.