إيلاف من الرباط: قدم أحمد الريسوني بالدوحة، استقالته من رئاسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. وبرر العالم المغربي المتخصص في علم المقاصد قراره بقوله: "تمسكا مني بمواقفي وآرائي الثابتة الراسخة، التي لا تقبل المساومة، وحرصا على ممارسة حريتي في التعبير، بدون شروط ولا ضغوط،قررت تقديم استقالتي من رئاسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين".
وزاد قائلا في بيان: "أنا الآن في تواصل وتشاور مع فضيلة الأمين العام، لتفعيل قرار الاستقالة، وفق مقتضيات المادتين21 و22 من النظام الأساسي للاتحاد".
وجاءت استقالة الريسوني على خلفية الجدل الذي أثارته تصريحاته في حوار صحفي مصور، قبل أسابيع، بخصوص قضية الصحراء والعلاقات التاريخية المغاربية، وخصوصا علاقة المغرب بالجزائر وموريتانيا، قبل أن يخرج لاحقا، ليوضح بعض الأفكار والعبارات التي وردت في تصريحه.
وبقدر ما أثارت تصريحات ردود فعل غاضبة في موريتانيا وبدرجة أكبر الجزائر، وصلت حد تجميد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين نشاطها في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين مع اشتراط تقديم اعتذار صريح ودقيق من رئيسها أحمد الريسوني أو استقالته من منصبه، فقد حظيت في أغلب التفاعلات بتأييد واضح من الرأي العام المغربي.

توضيحات الريسوني
من بين التوضيحات، التي ساقها الريسوني، والتي قال إن "من شأنها أن تصحح ما وقع من "سوء فهم" أو "سوء تأويل" أو "تزيد" على كلامه: "غير خاف أن دول المنطقة المغاربية كلها تعاني من تداعيات مشكلة الصحراء المغربية، التي يسميها البعض "الصحراء الغربية"، والتي وصفتُها في الحوار بكونها "صناعة استعمارية". ويوجد على حدود المغرب مع الجزائر تنظيم مسلح يسمى جبهة البوليساريو، أو "الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب"، وقد سبق لهذا التنظيم أن أعلن عن إقامته لما سماه "الجمهورية العربية الصحراوية". ومعلوم أن هذه المنظمة محضونة ومدعومة بالكامل من الدولة الجزائرية، وتتخذ من مدينة تندوف الجزائرية عاصمة فعلية لها، وفيها قاموا بتجميع الآلاف من أبناء صحراء (الساقية الحمراء ووادي الذهب)، يعيشون في المخيمات ، في أوضاع مزرية ، منذ عشرات السنين. لأجل ذلك ، يقول الريسوني ، دعوت إلى السماح للعلماء والدعاة المغاربة، ولعموم المغاربة، بالعبور إلى مدينة تندوف ومخيماتها، للتواصل والتحاور والتفاهم مع إخوانهم المغاربة الصحراويين المحجوزين هناك، حول الوحدة والأخوة التي تجمعنا، وحول عبثية المشروع الانفصالي، الذي تقاتل لأجله جبهة البوليساريو، مسنودة وموجهة من الجيش الجزائري. وهذه كلها أمور مكشوفة يعرفها الجميع".
وأضاف الريسوني، في معرض توضيحاته: "أومن، مثل كافة أبناء المنطقة، أن بلدان المغرب العربي الخمسة، في أمس الحاجة إلى تجاوز هده المشكلة، التي تعرقل وتعطل جهود الوحدة والتنمية، وتهدد السلم والاستقرار بالمنطقة. وأدعو إخواننا المسؤولين الجزائريين إلى أن يتركوا للمغرب معالجة النزاع باعتباره قضية داخلية.. وأومن، مثل كافة العقلاء، أن الحرب لن تأتي بحل أبدا، ولكنها تأتي بالدمار والخراب والاستنزاف للجميع، وتأتي بمزيد من التمزقات الداخلية والتدخلات الأجنبية".
وبخصوص العلاقة مع الجارة الجنوبية للمملكة، أوضح الريسوني: "ان استقلال موريتانيا اعترض عليه المغرب لعدة سنين، لأسباب تاريخية .. ثم اعترف به، وأصبحت موريتانيا إحدى الدول الخمس المكونة لاتحاد المغرب العربي. فهذا هو الواقع المعترف به عالميا ومن دول المنطقة. وأما أشواق الوحدة القديمة، وتطلعاتها المتجددة، فلا سبيل إليها اليوم إلا ضمن سياسة وحدوية متدرجة، إرادية متبادلة. وأفضل صيغها المتاحة اليوم هي إحياء "اتحاد المغرب العربي" وتحريك قطاره. مما لا يحتاج إلى تأكيد، ولكني لا أملُّ من تكراره والاعتزاز به، أنني لا تفريق عندي ولا مفاضلة بين مغربي وجزائري، أو مغربي وموريتاني، أو مغربي وتونسي، أو مغربي وليبي. بل المسلمون كلهم إخوتي وأحبتي، وللقرابة والجيرة زيادة حق".

توضيح الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين
نشر الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين توضيحا، يحمل توقيع أمينه العام علي محيي الدين القره داغي، حول ما صرح به الريسوني، جاء فيه: "بعد مشاورة فضيلته، وأصحاب الفضيلة في الأمانة العامة تم الاتفاق على إصدار التوضيح الآتي: أولا، إن دستور الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين ينص على أن الرأي الذي يسند إلى الاتحاد هو الرأي الذي يتم التوافق، والتوقيع عليه من الرئيس والأمين العام بعد المشورة، ثم يصدر باسم الاتحاد. وبناء على هذا المبدأ فإن المقابلات أو المقالات لسماحة الرئيس، أو الأمين العام تعبر عن رأي قائلها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد. ثانيا،إن ما تفضل به فضيلة العلامة الريسوني في هذه المقابلة أو في غيرها حول الصحراء هذا رأيه الخاص قبل الرئاسة، وله الحق في أن يعبر عن رأيه الشخصي مع كامل الاحترام والتقدير له ولغيره، ولكنه ليس رأي الاتحاد. ثالثا، من المبادئ الثابتة في الاتحاد أنه يقف دائماً مع أمته الإسلامية للنهوض بها، وأن دوره دور الناصح الأمين مع جميع الدول والشعوب الإسلامية، ولا يريد إلا الخير لأمته، والصلح والمصالحة الشاملة، وحل جميع نزاعتها ومشاكلها بالحوار البناء، والتعاون الصادق".

بين الترحيب والأسف
فيما حظي قرار استقالة الريسوني بردود فعل مرحبة في كل من الجزائر وموريتانيا، ذهبت ردود الفعل المغربية إلى الربط بين خلفيات الجدل وواقع العلاقات العربية والإسلامية، في علاقة بخصوصيات القضايا الوطنية. وكتب الباحث ادريس الكنبوري، على حسابه بـ"فيسبوك": "كان واضحا أن الدكتور أحمد الريسوني سوف يجد نفسه في مأزق كرئيس للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بعد تصريحاته الأخيرة؛ إما أن يستقيل وإما أن يتفكك الاتحاد بعد انسحاب علماء الجزائر منه احتجاجا؛ وقد اختار الريسوني الاستقالة؛ التي لا بد أن يكون وراءها ضغوط. الريسوني إذن دفع رأسه ثمنا لموقف وطني مشرف يستحق عليه الاحترام؛ وهذا انعكاس للموقف الرسمي للدولة؛ أن لا مساومة في القضية الوطنية. ولكن بعيدا عن هذا الموقف؛ تطرح الاستقالة موضوعا شائكا؛ وهو موقع العلماء من القضايا الداخلية لبلدانهم والتوفيق بينها وبين قضايا الأمة. ما حصل يكشف لنا بوضوح أن النزعة القطرية - بضم القاف - توجد في حالة صدام مع اختيارات الأمة؛ وأن مفهوم الأمة اليوم هو خطاب سياسي ايديولوجي أكثر منه خطابا واقعيا؛ وبالتالي أصبح مطلوبا من العلماء الالتصاق بواقع بلدهم أكثر من ارتباطهم بقضايا الأمة التي لا يوجد حولها إجماع في التفاصيل؛ فنحن اليوم نتجه أكثر فأكثر نحو النزعة القطرية الضيقة؛ وهذا يعني بكل صراحة أن علماء المسلمين بات عليهم الوقوف إلى جانب التاريخ الاستعماري ودعم مخلفاته على حساب التاريخ الحقيقي؛ وإلا وجدوا أنفسهم في مواجهة مع الدولة القطرية. إنها إشكالية عويصة جدا؛ تفترض استقالة العلماء من الشأن السياسي والاكتفاء بالقضايا الدينية الخاصة التي تهم الفرد لا القضايا العامة التي تهم الأمة. ويمهد هذا لتحول كبير في الأدوار التاريخية للعلماء. فنحن اليوم نقيس دور العلماء إلى دور علماء الماضي؛ بينما كان هؤلاء يعيشون ظروفا مختلفة ما قبل ولادة الدولة القطرية؛ التي نسميها دولة وطنية état nation تقليدا للغرب؛ وهذا خطأ كبير؛ لأن الدولة الوطنية في أوروبا كانت إطارا سياسيا لقوميات محددة؛ بينما نشأت عندنا موزعة القوميات على أكثر من دولة؛ وهذا ما حصل في المغرب مثلا؛ حيث ولدت الدولة بعد الاستعمارين الفرنسي والاسباني ناقصة السيادة؛ وبقي جزء من المغاربة تحت السيادة الجزائرية بسبب التقسيم الاستعماري. ما ينطبق على العلماء ينطبق على الحركات الإسلامية. فقد ظهرت هذه الحركات قطرية لكن بخطاب يشمل الأمة؛ مما جعلها تعيش تناقضات حادة؛ وقد أسهم حسن الترابي في حل هذا الإشكال نظريا قبل عقدين من الزمن حين طالب بإعطاء الأولوية للجانب القطري. لا يوجد خيار اليوم سوى أن تتحول مؤسسات العلماء إلى آليات للوساطة".
فيما كتب الإعلامي يونس مسكين: "الأمم الواعية بطبيعة الصراع الكوني والتي تفصل بين الوحدة في الجبهات الخارجية والاختلاف البنّاء في الداخل، تعي جيدا أهمية توظيف واستعمال جميع الأوراق والوسائل المتاحة لربح مساحات في المجال الخارجي وتحويل كل فرصة وكل طاقة شعبية كانت أو رسمية، إلى قوة صلبة أو ناعمة لتحقيق المصالح الوطنية، ولو بطريقة غير مباشرة ودون تدخل مباشر أو فج، لهذا تجد الأبطال الرياضيين والفنانين والعقول الناجحة في الخارج ... كلهم جزء من هذا العمل الوطني الجماعي والموحد. انطلاقا من ذلك، لا يمكن لخروج الفقيه أحمد الريسوني من رئاسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين إلا أن يكون خسارة للمغرب".