يمثل الاتحاد الأوروبي ظاهرة حضارية لا ريب فيها، فقد نجحت تلك الدول في التلاقي والتعاون على الرغم من الاختلافات الإثنية، والدينية، والعرقية؛ وكذلك في المستويات الاقتصادية فيما بينها، وقد حقق هذا الاتحاد فوائد جمّة للأوروبيين لعل أهمها: القدرة على التحرك والتنقل ضمن دول الاتحاد من دون شرط الحصول على تأشيرة، ومن وجود حواجز جمركية، كما أن الأوروبيين باتوا يتكلمون مع الدول الأخرى في العالم بصوت واحد، ما جعلهم قوة عالمية لولا سيرهم في فلك الأخ الأكبر الأميركي الذي يبالي بمصالحه من دون مراعاة مصالح الشركاء الآخرين، حتى ولو كانت لشركائه الأوربيين؛ ما دعا دولاً أوروبية، مثل فرنسا، إلى دعوة شقيقاتها في الاتحاد إلى «الاستقلال الإستراتيجي» عن أميركا.
عندما رفع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب شعار «أميركا أولاً» وأدار ظهره لحلفاء بلاده الأوروبيين والكنديين والأستراليين وسواهم في دول العالم، تعالت صيحات بعض الدول الأوروبية، خاصة فرنسا وألمانيا، لجعل أوروبا مركزية دولية، لكن هذه الدعوة لم تلقَ آذاناً مصغية من قبل دول الاتحاد الأوروبي الأخرى.
وعلى الرغم من أن دول أوروبا، حتى اللحظة، قد حققت قدراً كبيراً من الانسجام فيما بينها في ظل الاتحاد الأوروبي، فإن ذلك ليس دليلاً كافياً على قدرة هذه الدول على القيام بمشروع أوروبي استقلالي، لأن هذا المشروع يتطلب إمكانات اقتصادية وعسكرية هائلة لا تملكها أغلب دول الاتحاد، فدول الاتحاد اليوم لا تقوم بتمويل سوى جزء ضئيل من نفقات حلف شمال الأطلسي، أما أغلب النفقات والتسليح والمناورات تأتي من الولايات المتحدة.
لكن في مقابل ذلك المظهر الجذاب الذي يطفو على المشهد، يوجد هناك واقع أوروبي مؤلم؛ حيث ينتشر الفقر بين قطاعات واسعة من الأوروبيين، وهناك من لا يستطيع منهم أن يؤمن تكاليف العلاج لمرضه، وفي هذا الصدد فقد قال بابا الفاتيكان فرنسيس، أثناء لقائه مع أعضاء الرابطة الدينية الإيطالية في الفاتيكان، إنه «يمكن الحديث اليوم عن ظاهرة يمكن تسميتها بـ«فقر الصحة». وإنه يوجد في إيطاليا أناس لا يستطيعون تحمل تكاليف العلاج في حين لا يزال الوصول إلى الخدمات الطبية صعباً للغاية». وهذا أمر لا يمكن تصوره في دولة مثل إيطاليا، وهي عضو في مجموعة السبع الكبرى أو الدول الأكثر تصنيعاً في العالم. وأيضاً أدى التراجع الشديد في معدل هطول الأمطار والثلوج إلى جفاف أنهار وبحيرات إيطاليا، وفرنسا تشهد هذا العام أسوأ موجة جفاف تم تسجيلها منذ عام 1959.
الواقع يؤكد أن الاتحاد الأوروبي، كأغلب دول العالم خاصة بعد أزمة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، يئن تحت وطأة أزماته الاقتصادية، وقد أعلن المكتب الإحصائي للاتحاد الأوروبي، منذ فترة، بأن ما يقارب مئة وتسعة ملايين شخص، أو ما نسبته نحو واحد وعشرين فاصلة سبعة في المئة من سكان الاتحاد الأوروبي، عرضة لخطر الفقر أو الإقصاء الاجتماعي.
وفي سبع دول أوروبية هناك شخص واحد من بين سبعة أشخاص معرض للفقر، وتأتي بلغاريا في المقام الأول، وتبلغ نسبة الفقراء فيها نحو ثلاث وثلاثين في المئة من السكان، وتليها رومانيا التي تصل فيها نسبة الفقراء إلى اثنين وثلاثين ونصف في المئة من السكان، وتليها اليونان ونسبة الفقراء فيها تقدر بواحد وثلاثين فاصل ثمانية في المئة من عدد السكان، ومن ثم إيطاليا، ونسبة الفقراء فيها هي سبعة وعشرون فاصل ثلاثة في المئة من عدد السكان، ومن ثم إسبانيا ونسبة الفقراء فيها هي ستة وعشرون فاصل واحد في المئة من عدد السكان.
وعندما حدثت أزمة أوكرانيا، بادر الاتحاد الأوروبي إلى مقاطعة روسيا سياسياً واقتصادياً، وقد تركت تلك المقاطعة، لا سيما في شقها الاقتصادي، تداعيات خطرة على الاقتصادات الأوروبية جميعها، لأنها عمّقت الفجوة بين العرض والطلب، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار إلى مستويات قياسية غير معهودة، وهذا أدى إلى إدخال شرائح واسعة من الأوروبيين تحت خط الفقر. وقال تقرير لمنظمة «أنقذوا الأطفال» الألمانية، تم نشره مطلع الشهر الماضي، إن نحو عشرين مليون طفل في دول الاتحاد الأوروبي، معرضون لخطر الفقر. وإن واحداً من كل أربعة أطفال في دول الاتحاد الأوروبي عرضة للفقر.
لا شك أن تلك الأرقام الصادمة عن مستويات الفقر في الاتحاد الأوروبي، تدل دلالة قاطعة على أن هذا الاتحاد لن يستطيع البقاء بشكله الحالي، لأن كل دولة من دوله سوف تبحث عن حلول للخروج من هذا المأزق الاقتصادي الذي يتسع مع مرور الوقت، وإن كلفها ذلك الخروج من عباءة ذلك الاتحاد، الذي قد يهوي بها في قاع بئر عميقة من الفقر والحاجة.
التعليقات