إيلاف من الرباط: صدر، أخيرا، للدكتور إدريس لكريني، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاضي عياض في مراكش، كتاب جديد، تحت عنوان "طفولة بلا مطر"، يعود فيه صاحبه إلى فترة طفولته، مستعرضا فيه جانبا من سيرته التي توقف في سردها عند لحظة ولوجه الجامعة لمتابعة دراسته العليا.

ينطلق الكاتب في سرد مذكراته من مرحلة "الكُتّاب القرآني"، وصولا إلى لحظة مغادرة قريته الصغيرة لولوج الجامعة. وعلى مدى سرد خطي للأحداث والمواقف، نتعرف على شخصية الطفل ادريس، في إقباله على الحياة، في علاقته بأسرته الصغيرة ومحيطه: تلميذا مجتهدا، شغوفا بالقراءة، منفتحا على الآخرين مع قدرة تواصلية مفعمة بكثير من الحس الإنساني.

تتخلل المذكرات طرائف ومواقف ساخرة، بقدر ما تنم عن صدق صاحبها تعرفنا على ما سيبني لشخصية لكريني في محطات لاحقة من حياته. كما تتقاطع هذه المذكرات مع عدد من الأحداث الوطنية والإقليمية، من قبيل أحداث فاس وحرب الخليج، التي طبعت تاريخ المغرب والعالم، مطلع تسعينيات القرن الماضي، فضلا عن استعراضها لجانب من حياة مغاربة المهجر.


غلاف "طفولة بلا مطر" للمغربي ادريس لكريني

جاء الكتاب في 152، و24 عنوانا فرعيا، هي: "موعد مع الحياة"، و"في أحضان المدرسة"، و""سمرا" في موسم الحصاد"، و"عازف في المقبرة"، و"لعنة الجفاف"، و"الرحيل"، و"في الطريق إلى "العين"، و"سياحة روحية"، و"الجفاف"، و"صنم في الفصل"، و"موسم الزيتون"، و"الحنين"، و"مغامرة في الجبل"، و"مهمة تحت الشمس"، و"في رحاب "دار الشباب""، و"قلق المدينة"، و"أنيق في الفصل"، و"السكن الجديد"، و"البطل المزور"، و"في ضيافة "الحرم الجامعي""، و"هدوء قبل العاصفة"، و"عاشق "الست""، و"خارج الحدود"، و"أحلام على مشارف المدينة".

مهد الكاتب لكل محور من مذكراته بمثل أو قول مأثور لكاتب أو مفكر، بشكل جعل هذه العتبات تختصر جانبا من قناعاته وطريقة تفكيره، ومن ذلك ربطه عنوان "الجفاف والحب" بقول لمحمد غدو، وهو شاعر من قريته بني عمار عاش حياة قاسية، جاء فيه: "هجر الحمام قريتي، حل الجراد"؛ وقول آخر للشاعر الفلسطيني محمود درويش، تحت عنوان "الرحيل"، جاء فيه: "الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء". أما تحت عنوان "الطريق إلى "العين"" فأتحفنا الكاتب بمثل موزمبيقي يقول: "الطريق مصنوع بالمشي". كما حرص الكاتب على أن يضع هوامش تعرف القارئ غير الملم بعدد من الفضاءات والشخصيات والأحداث المحلية.

بوح بالذكريات
وأوضح لكريني، في مقدمة كتابه، أن جديده الإبداعي يأتي ليجسد لحظة بوح بذكريات وأحداث تتأرجح بين الدفء والصدمة، والتلقائية، يتخللها بعض الشغب، وهي تدور في جزء كبير منها داخل مسقط رأسه، قرية بني عمار، على مشارف جبال الريف بشمال المغرب، إلى جانب فضاءات أخرى، مثل زرهون وفاس، وأنه حرص على كتابتها بشعور الأطفال، كما حاول قدر الإمكان أن يتذكر فيها تفاصيل عدد من الأمكنة واللحظات والأحاسيس، رغم أن الأمر لا يخلو من صعوبات. وأضاف: "لا أنكر أنني استحضرت هذه الذكريات بمزيج من السعادة والألم، والكتاب هو محاولة للغوص في مشاعر طفل فتح عينيه على قرية صغيرة تجثم عند سفح الجبل، وظل يحلم بما خلف التلال المقابلة عند كل غروب، وسعي للإمساك بخيوط الكثير من اللحظات بدفئها وشغبها وأحلامها وآلامها، وللتوقف عند أحداث عابرة تجسد في محملها تحديا لقساوة الطبيعة وانتصارا للحياة".

دوافع خوض التجربة
وعن دوافع الخوض في تجربة إبداعية جديدة، بعيدا عن انشغالاته الأكاديمية، باحثا في القانون والعلاقات الدولية وقضايا التحول الديمقراطي وإدارة الأزمات، يقول لكريني: "كثيرا ما راودتني فكرة كتابة هذه المذكرات وتقاسمها على نطاق أوسع، بعد أن بحت بجزء منها لأسرتي الصغيرة ولبعض الأصدقاء، لم أجد صعوبة كبيرة في استحضار الكثير من اللحظات الماتعة وحتى القاسية منها، لكونها ظلت منقوشة بذاكرتي، ومدونة في جزء مهم منها ضمن مذكرات طفولية، كنت حريصا على كتابتها في حينه بلغة بريئة لا تخلو من انفعال". وأضاف: "في غمرة الانشغال الأكاديمي بكثير من الأحداث والقضايا الدولية الصاخبة التي أصدرت بصددها عددا من المؤلفات والدراسات والمقالات، كنت أتساءل مع نفسي دائما، ألم يحن الوقت بعد للالتفات إلى تلك الذكريات المتراكمة التي تغمرني من حين لآخر، وأجد فيها متنفسا، وحنينا للطفولة ولرائحة التراب، والأشجار ودخان الفران البلدي، ولأحياء القرية بدروبها وضجيج أطفالها، لأنسج بأحداثها البسيطة وأشيائها الصغيرة، ومع أناسها الطيبين، لوحة تؤرخ لزمن عابر، قد يختلف في ظروفه عن أزمان أخرى".

قراءات
مما نقرأ، للكريني، تحت عنوان "عاشق "الست"": "انتهت العطلة الربيعية، فغادرت القرية راجلا، باتجاه مركز "النزالة"، حاملا معي حقيبتي وآمالي. عادة ما يتأخر وصول الحافلة المتجهة نحو فاس، وكثيرا ما لا تتوقف بسبب عدم وجود مقاعد فارغة. كنت ألجأ إلى "الأوطوسطوب" ملوحا بيدي للشاحنات والسيارات التي تعبر الطريق. توقفت شاحنة بيضاء أمامي، وصعدت إلى جانب السائق الذي كان في العقد الخامس من عمره. أخبرته بوجهتي. لم تكد تقطع سوى بضع كيلومترات حتى بدأ المطر في التساقط. بدا المنظر جميلا أمامنا. نسير بين حقول خضراء مترامية على امتداد البصر، ووديان صغيرة تتدفق بجانب الطريق. أخرجت "كاسيت" لأم كلثوم من حقيبتي، وطلبت منه تشغيلها. بدا الصوت رديئا لأنها لم تكن أصلية، أخرجها وأرجعها لي بأدب، ثم فتح خزانة تقع أمامه في أعلى الشاحنة، تضم عددا كبيرا من "الكاسيت" الأصلي، ثم خاطبني: "كل هذه الأشرطة لأم كلثوم وهي أصلية، اختر ما تريد سماعه من بينها". تركت له حرية الاختيار، ثم راح يتحدث على إيقاع موسيقى أغنية "ألف ليلة وليلة"، عن حبه لأغاني الست، وكيف حرص على حضور حفلها الذي أحيته بالرباط في مارس 1968، ثم أضاف أنه زار مصر بعد وفاتها، وكان حريصا على زيارة قبرها، بل وقدم مبلغا مهما من المال لفقيه بالمقبرة، وطلب منه أن يقرأ بعض الآيات القرآنية بشكل منتظم ومستمر ترحما على روحها، ثم تابع قائلا: "عندما رزق أخي الكبير بمولود أنثى، طلبت منه أن يسميها "أم كلثوم"، مقابل تكفلي بعقيقتها، وهو ما كان".

كنت أتابع بدهشة حديثه الشيق، وهو يردد من حين لآخر بعض مقاطع الأغنية، عند مدخل المدينة سألني عن عملي في فاس، فأخبرته أنني تلميذ مقبل على الحصول على شهادة الباكالوريا (الثانوية العامة)، حثني على الاجتهاد، مضيفا: "لقد ندمت متأخرا، لعدم استكمال دراستي، وها أنا أدفع الثمن، بعملي الشاق وسفرياتي الليلية بعيدا عن أسرتي". عندما وصلت إلى وجهتي، أخرجت ورقة نقدية قدمتها له، فرفض مبتسما، وقال لي مودعا: "عندما تكبر وتتفوق في دراستك، لا تنس "البسطاء" مثلي".