على مدى أسبوع تواصل محكمة العدل الدولية - التابعة للأمم المتحدة – بمقرها الدائم في لاهاي بهولندا، جلسات استماع حول العواقب القانونية للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
وتُعقَد هذه الجلسات بعد قرارٍ سابقٍ للجمعية العامة للأمم المتحدة صدر في ديسمبر/كانون الأول 2022 بطلب من محكمة العدل الدولية أن تصدر الرأي الاستشاري "الفتوى القانونية" في مسألتين وهما:
ما هي الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الفلسطينيين في تقرير المصير، وعن احتلالها طويل الأمد للأرض الفلسطينية منذ عام 1967 واستيطانها وضمها لها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديمغرافي لمدينة القدس وطابعها ووضعها، وعن اعتمادها تشريعات وتدابير تمييزية في هذا الشأن؟
كيف تؤثر سياسات إسرائيل وممارساتها على الوضع القانوني للاحتلال وما هي الآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول والأمم المتحدة؟
لكن لماذا تطلب الجمعية العامة للأمم المتحدة رأياً استشارياً من محكمة العدل الدولية؟
تعد محكمة العدل الدولية جهازا قضائيا رئيسيا للأمم المتحدة، وتتولى المحكمة الفصل في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول، وتقدم آراء استشارية بشأن المسائل القانونية التي قد تحيلها إليها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.
ووفقا للمادة 65 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، فإن من حق الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تطلب رأيا قانونيا – استشاريا غير ملزم – بشأن أي موضوع معروض على الجمعية وليس عليه توافق دولي.
هل رأي المحكمة ملزم قانونا للأمم المتحدة؟
يقول أستاذ القانون الدولي في باريس، مجيد بودن، إن رأي المحكمة غير مُلزمٍ للأجهزة التنفيذية للأمم المتحدة، لكن له حجة قانونية والتزام أخلاقي لدى الدول، بمعنى أنه "إذا اختلفت الآراء وتباينت وجهات النظر والمواقف السياسية، فالأمر الفصل هنا هو رأي محكمة العدل الدولية التي تنظر في تطبيق مبادئ القانون الدولي، وسيكون من الصعب على أي دولة أن تخالف هذا الرأي القانوني، وإن خالفته تتحمل التبعات السياسية لرأيها أمام العالم".
ليست المرة الأولى
تعد هذه هي المرة الثانية التي تطلب فيها الجمعية العامة للأمم المتحدة من محكمة العدل الدولية إصدار رأي استشاري يتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة في ظل تصاعد الضغوط السياسية على إسرائيل بسبب حرب غزة.
وسبق لمحكمة العدل الدولية أن أصدرت في يوليو/تموز 2004، قراراً بأن الجدار العازل الذي تقيمه إسرائيل في الضفة الغربية ينتهك القانون الدولي ويجب تفكيكه، وذلك رغم استمرار وجوده حتى اليوم.
ما الدول التي تقدم إفادتها أمام محكمة العدل الدولية؟
وفقا لما هو معلن من جانب المركز الإعلامي للأمم المتحدة، تقدم 52 دولة إفاداتها المكتوبة والشفهية أمام المحكمة، ومن بينها عدد من الدول العربية تشمل مصر والسعودية والإمارات، إلى جانب الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا والصين، كما قدمت إسرائيل في وقت سابق إفادتها مكتوبة إلى المحكمة.
وأذنت المحكمة لثلاث منظمات إقليمية بتقديم إفادتها حول القضية، وهي الجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، إلى جانب الاتحاد الأفريقي.
ووفق موقع الأمم المتحدة، فإن إسرائيل ركزت في إفادتها على أن السؤالين اللذين طرحهما قرار الجمعية العامة على المحكمة يمثلان تشويها واضحا لتاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وواقعه الحالي.
وأضاف البيان أنه "من خلال الإشارة بإصبع الاتهام إلى جانب واحد فقط - هو إسرائيل - فإن الأسئلة تتجاهل آلاف القتلى والجرحى الإسرائيليين الذين وقعوا ضحايا لأعمال الكراهية والإرهاب الفلسطينية - وهي أعمال لا تزال تعرض المدنيين الإسرائيليين والأمن القومي للخطر بشكل يومي".
ونبه بيان إسرائيل إلى أن الاستجابة لما وصفه بـ "التزييف"، لن تؤدي سوى إلى دفع الطرفين إلى مزيد من التباعد بدلا من المساعدة في تهيئة الظروف للتقريب بينهما.
هل تستجيب إسرائيل؟
يقول الكاتب والمحلل السياسي الإسرائيلي، إيلي نيسان، إن إسرائيل لا تعترف باختصاص هذه المحكمة للنظر في هذه القضية، ومن ثم فإنها لن ترسل أي موفد للترافع أمامها، مشيرا إلى أنه لا يمكن لمحكمة في لاهاي إملاء رغبتها بانسحاب إسرائيل من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس دون الأخذ بعين الاعتبار المخاطر التي تترتب على ذلك بالنسبة لدولة إسرائيل.
وأضاف إيلي نيسان أن إسرائيل لا تُمانع إقامة دولة فلسطينية مُستقلة، ولكن من خلال مفاوضات مباشرة بين الجانبين، ودون إملاءات خارجية، وأشار إلى أن إسرائيل سبق وأن قبلت بقرار الأمم المتحدة القاضي بتقسيم فلسطين عام 1947، وكان يمكن للفلسطينيين والعرب إقامة دولة فلسطينية في هذا التاريخ لكنهم رفضوا، كما يقول نيسان، وتغيرت الأوضاع منذ ذلك التاريخ بصورة كبيرة.
وقدمت واشنطن – الداعم الأكبر لإسرائيل من بين الدول التي ستقدم إفادات للمحكمة - مرافعتها الشفهية في 21 من فبراير/شباط الجاري أمام المحكمة، ودعت خلالها إلى أخذ مخاوف إسرائيل الأمنية في الاعتبار عند إصدار رأي المحكمة، وشككت في اختصاص محكمة العدل الدولية في نظر هذه القضية برمتها.
وقال ريتشارد فيسك القائم بأعمال المستشار القانوني لوزارة الخارجية الأميركية، إن محكمة العدل لا يمكن أن تأمر بانسحاب فوري للقوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة في المرحلة الراهنة، مشيرا إلى أن "أي تحرك نحو انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية وغزة يتطلب مراعاة الاحتياجات الأمنية الحقيقية لإسرائيل".
أبرز الإفادات والمرافعات الشفهية
وخلال جلسات الاستماع التي بدأت في 19 من فبراير/شباط الجاري وتستمر حتى 26 من الشهر نفسه، كان وزير الخارجية الفلسطيني، رياض المالكي، أول المتحدثين، باعتبار أن فلسطين تحمل صفة عضو مراقب داخل المحكمة.
وشدد المالكي خلال مرافعته الشفهية أمام المحكمة على ضرورة "إعلان أن الاحتلال الإسرائيلي غير قانوني، ويجب أن ينتهي فورا وبشكل كامل ودون قيد أو شرط"، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن "الأحداث الحالية تظل أكبر اختبار لمصداقية النظام العالمي القائم على القانون، وهو اختبار لا يمكن للإنسانية أن تفشل فيه" على حد قوله.
وخلال مرافعتها الشفهية، قالت السعودية من خلال سفيرها المعتمد لدى هولندا زياد بن معاشي العطية إن "الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية غير قانوني"، داعيا إلى إنهائه "دون شروط"، وأن "أفعال إسرائيل تشير إلى أن لا نية لديها نحو السلام".
مضيفا أن "إسرائيل جعلت من المستحيل إقامة دولة فلسطينية عن طريق ضم أكثر من مليوني دونم من الأراضي (الدونم 1000 متر مربع) وبناء أكثر من 279 مستوطنة غير قانونية في الضفة الغربية".
أما مصر، فقد عززت إفادتها المكتوبة بمرافعة شفهية قدمتها ياسمين موسى، المستشار القانوني بمكتب وزير الخارجية المصري، أكدت خلالها القاهرة على اختصاص المحكمة في إبداء الرأي الاستشاري بشأن الآثار القانونية المترتبة عن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
كما أكدت المرافعة المصرية على "مخالفة الممارسات الإسرائيلية لأحكام القانون الدولي في الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة".
وتحدث ممثل جنوب أفريقيا خلال جلسات الاستماع أمام محكمة العدل الدولية مؤكدا على أن "الرأي الاستشاري للمحكمة من الممكن أن يكون مفيدا في الجهود الرامية للتوصل إلى تسوية لقضية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية".
وقال سفير جنوب أفريقيا لدى هولندا فوسيموزي مادونسيلا إن "إسرائيل تعتبر نفسها غير مقيدة في أفعالها ضد الفلسطينيين"، وأن "تردد المجتمع الدولي في مساءلة إسرائيل عن سياساتها وممارساتها، وعدم قدرته على ضمان الانسحاب الفوري وغير المشروط والكامل للقوات الإسرائيلية، والإنهاء الفوري للاحتلال والفصل العنصري في فلسطين، يشجّع إسرائيل على اجتياز عتبة جديدة، وهي ارتكاب جريمة الجرائم، وهي الإبادة الجماعية".
هل تؤثر جلسات الاستماع على قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بشأن حرب غزة؟
استولت إسرائيل على الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، وهي مناطق يسعى الفلسطينيون لإقامة دولتهم عليها، إلى جانب مناطق أخرى من دول عربية مجاورة خلال حرب يونيو/حزيران 1967.
وعاودت إسرائيل التمركز في مناطق واسعة من القطاع عقب أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حيث تقوم حاليا بشن عملية عسكرية واسعة النطاق أدت إلى مقتل نحو 30 ألف فلسطيني وإصابة نحو 70 ألفاً آخرين، ونزوح 1.9 مليون فلسطيني من منازلهم وفق تقديرات منظمة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا"، إضافة إلى دمار واسع النطاق في كل أنحاء القطاع.
وتقول سونيا بولس الأستاذة المُشاركة في قسم القانون الدولي لحقوق الإنسان في جامعة نبريجا الإسبانيّة بمدريد إن جلسات الاستماع الحالية ربما لا يكون لها تأثير مباشر على قرار المحكمة بشأن القضية المرفوعة من دولة جنوب أفريقيا، والتي تتهم إسرائيل "بارتكاب جرائم إبادة جماعية وتمييز عنصري ضد الفلسطينيين خلال حرب غزة".
وتضيف سونيا بولس: "إننا نتحدث عن مسار مختلف تماما خلال جلسات الاستماع الحالية، لكن بما أن البت في حيثيات قضية جنوب أفريقيا قد يستمر لسنوات، فإن القرار الاستشاري إذا صدر قبل البت في هذه القضية قد يدعم ادعاء جنوب أفريقيا بأن جريمة الإبادة الجماعية للفلسطينيين لها سياق أوسع، بدأ منذ حرب 1948 التي أسست لدولة إسرائيل، ومن ثم احتلال الأراضي العربية والفلسطينية في 1967، وفرض نظام فصل عنصري في كل المناطق التي باتت تحت سيطرة إسرائيل حاليا".
التعليقات