عندما حررت قوات خاصة إسرائيلية اثنين من الرهائن المختطفين لدى حركة حماس في غزة، أدى ذلك إلى شعور بالارتياح لدى عائلتَي الرهينتين بشكل خاص، وإلى ارتفاع الروح المعنوية بين جموع الإسرائيليين بشكل عام.
لكن العملية ذاتها، التي وقعت في الساعات الأولى من يوم 12 شباط (فبراير)، تسببت في المقابل بمشاعر غضب في غزة، حيث أسفرت عن مقتل أكثر من 70 شخصا.
تحذير: قد يجد القارئ تفاصيل صادمة.
كانت نوارة النجار نائمة في الخيمة التي تؤوي عائلتها في رفح منذ خمسة أسابيع، على مسافة بضع مئات من الأمتار من موقع الغارة التي صاحبت عملية إنقاذ الرهينتين.
كانت نوارة تضطجع على أرض الخيمة، إلى جوار زوجها، وهي حامل في الشهر السادس ولديها ستة أطفال تتراوح أعمارهم بين 13 وأربعة أعوام.
وكانت أسرة نوارة قد نزحت من خان يونس، من مسافة تسعة كيلومترات شمالا، نزولاً عند تعليمات الجيش الإسرائيلي التي كانت تقول إن رفح منطقة آمنة.
وقبل أن يخلدا للنوم، تناقش الزوجان فيما يفعلان بشأن اثنين من أطفالهما كانا قد تعرضا للإصابة. وكان ابن لهما قد أصيب بحروق جرّاء ابتلاع طعام شديد السخونة، بينما كانت ابنة لهما تتعافى من شلل في الوجه نتيجة التعرّض لصدمة نفسية خلال الأيام الأولى من الحرب التي اندلعت في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
وقبل النزوح، كان عبد الرحمن لا يتردد في القيام بأي عمل يكسب منه قوت عائلته، ومن ذلك أنه كان يعمل في المزارع.
وكان الزوجان يتغلبان على ما يعترض حياتهما من مشكلات من خلال التحاور.
وتقول نوارة لبي بي سي: "كان زوجي قلقاً بشأن مستقبل الأسرة وإلى أين نذهب. وعرض علينا جيراننا أن يأخذوا ابنتنا لعلاجها عند طبيب. ولذلك قررنا أن يتولى هو [الزوج] مسؤولية الولد، على أن أتولى أنا مسؤولية البنت".
ثم حدث شيء غير معتاد؛ ذلك أن نوارة كانت معتادة على أن تنام وسط أطفالها. لكن في تلك الليلة بالذات، طلب منها زوجها عبد الرحمن أن تغير موضعها وأن تنام إلى جواره.
لتستيقظ نوارة قبيل الثانية صباحا على صوت إطلاق النار، وعندئذ اقترح الزوج أن يخرج ليرى ما يحدث.
تقول نوارة: "كان ابننا الكبير يقول لأبيه 'بابا، لا تخرج أرجوك'، وكان عبد الرحمن يحاول طمأنة الولد قائلا إن شيئا لن يحدث".
وفجأة شعرت نوارة بألم شديد في رأسها، وكانت إحدى شظايا انفجار قد وجدت طريقها إلى داخل الخيمة. ثم دخلت نوارة في نوبة صراخ، ولم تستطيع في البداية أن ترى أي شيء، ولكن بعد بضع دقائق استطاعت أن تبصر عبد الرحمن وهو يحتضر.
وتتذكر نوارة اللحظات الأخيرة لزوجها. وعندما رأى الأطفال والدهم على تلك الحال أخذوا يصرخون: "بابا، لا تتركنا"، قبل أن تأمرهم والدتهم بأن يبقوا بعيدين عن والدهم وأن يكتفوا بالدعاء له.
وكانت الابنة الكبرى مَلَك، ذات الـ13 ربيعا، قد أصيبت في عينها بجزء من الشظية التي دخلت الخيمة، فيما أصيب أربعة أبناء آخرين بإصابات طفيفة، فضلا عن الصدمة التي أصابتهم جرّاء ما سمعوا وما شهدوا – من انفجارات ومن نقْل والدهم إلى المستشفى.
وفي وقت لاحق من تلك الليلة، وفي مستشفى مليء بضحايا آخرين، تأكّد خبر وفاة عبد الرحمن لزوجته التي تساءلت باكية: "ما كان ذنبه؟ وما ذنب أطفاله؟ وما ذنبي أنا لأترمّل في سن الـ 27؟".
أما الابنة الكبرى مَلَك التي أصيبت في عينها، فقد أُخذت إلى ثلاث مستشفيات مختلفة في محاولة لتلقي العلاج، لكنها في النهاية فقدت عينها، وتصرخ "أما يكفي أني فقدتُ أبي!".
وفقاً لوزارة الصحة، التي تديرها حكومة حماس في غزة، لقي ما لا يقل عن 74 شخصا مصرعهم في أثناء الغارة التي وقعت في الساعات الأولى من يوم الـ 12 من شباط (فبراير) لتحرير الرهينتين.
ويتعذّر القطع بعدد المدنيين بين هؤلاء القتلى، لكن شهودا ومصادر طبية أشاروا إلى أن نسبة كبيرة من القتلى جراء تلك الغارة كانوا من غير المقاتلين.
ويقول المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، الذي يتخذ من غزة مقرا له، إن تلك الغارة قتلت 27 طفلا و22 امرأة، وذلك استناداً لبيانات قوائم مستشفيات حصل عليها المركز المستقل.
محمد الزعرب، يبلغ من العمر 45 عاما، وهو أب لعشرة أبناء، وكان قد نزح من خان يونس باتجاه الجنوب إلى رفح معتقداً أنها أكثر أمانا.
ويتذكر الزعرب كيف استيقظ من نومه في خيمته بسبب كثافة القصف، قائلا: "كانوا يقصفون باستخدام المروحيات، وطائرات إف-16 ... أصيب ابني بطلق في اليد، بينما أصيب جارُنا بطلق في الرأس".
وفي اليوم التالي، شعر والد محمد الزعرب، وهو رجل مسنّ، بالتعب، قبل أن ينقله ابنه إلى عيادة طبيب، لكن لم يمض وقت طويل حتى توفي الرجل العجوز بسكتة قلبية.
ويقول الزعرب لبي بي سي: "دفنت والدي، واليوم هو الثالث له في قبره، ولكن، لماذا يقع لنا كل هذا؟".
وتقيم الهيئة الطبية الدولية مستشفى ميدانيا على مقربة من هذا المشهد. وتقدم الهيئة الدولية إغاثات طارئة في مناطق الأزمات حول العالم.
ويتذكر الجرّاح الباكستاني جاويد علي، كيف انتفض مستيقظا من مضجعه مع بداية الغارات، ليذهب إلى الاختباء في غرفة آمنة قريبة من المستشفى يتخذها طاقم العمل كملجأ وقت الغارات.
ويقول جاويد لبي بي سي: "بخلاف الغارات الجوية، كنا نسمع صوت الدبابات في الخلفية، وكان هناك تبادل كثيف لإطلاق النار، فضلا عن صوت مروحيات كانت تطلق القذائف من فوق مبنى المستشفى في كل اتجاه .. لقد كان الوضع مروّعا للغاية".
ولدى سماع صوت عربات الإسعاف، قرر الطاقم الطبي مبارحة غرفة الملجأ من أجل القيام بواجبهم وإسعاف الجرحى، وإلى جانب هؤلاء الجرحى، كان هناك أطفال ونساء يطلبون ملجأ آمنا.
ويقول جاويد: "كان المستشفى ذاته خيمة للجوء. ومن ثم كان هناك الكثير من بواعث القلق؛ فأي ضربة باتجاه المستشفى ستكون مدمّرة، لكننا كنا قد اتخذنا قراراً بإنقاذ أكبر عدد ممكن من الجرحى".
ويُعتقد أن كثيرين من القتلى لا يزالون تحت أنقاض المنازل التي تعرّضت للدمار جراء تلك الغارات.
وقامت طبيبة أخرى تعمل لدى منظمة أطباء بلا حدود، بإرسال سلسلة من الرسائل الصوتية الصارخة لزملائها في لندن، بعد شروق يوم الـ 12 من شباط (فبراير).
وتحدثت هذه الطبيبة لبي بي سي، لكنها اشترطت عدم ذِكر اسمها. وسردت ما شاهدته بعد الغارة في وصف مروّع.
وتقول الطبيبة: "بينما كنت أقوم بفحص القادمين إلى المستشفى، وقعتْ عيني على أشلاء بشرية .. كانت ساقاً كاملة لا نعرف صاحبها. وعندما شاهدتُ أشلاء على الأرض دخلتُ في نوبة من الصراخ".
ومنذ بداية الحرب في غزة، يتهم الجيش الإسرائيلي حركة حماس باستخدام المدنيين كدروع بشرية، وباستخدام المنشآت الطبية كمخابئ للعمليات العسكرية ولإخفاء الرهائن.
ويعدّ إنقاذ الرهينتين -فرناندو سيمون مارمان (60 عاما) ولويس هار (70 عاما) نجاحا نادرا للفِرق الإسرائيلية التي تبحث عن 130 آخرين، بما في ذلك طفلان، يُعتقد أنهم من بين الرهائن.
وفي بيان لبي بي سي بشأن عملية إنقاذ الرهينتين، قال متحدث باسم الجيش الإسرائيلي إنهم "تحرّوا الالتزام بالحدّ من وقوع أضرار للمدنيين" مستمعين في ذلك إلى نصائح من حقوقيين عسكريين بضرورة الالتزام بالمعايير الدولية.
وتكيل منظمات معنية بحقوق الإنسان الاتهامات لإسرائيل باستخدام القوة المفرطة.
وفي بيان في الثامن من شباط (فبراير) - قبل أربعة أيام من عملية تحرير الرهائن- حذّرت هيومن رايتس ووتش من قيام إسرائيل بتنفيذ هجمات عشوائية وغير قانونية.
وفيما يتعلق بالسؤال عما إذا كانت إسرائيل تنتهك القانون في غزة، "فثمة الكثير من الدخان الذي يدلل بلا أدنى شك على وجود نيران"، على حد تعبير هيومن رايتس ووتش في بيانها .
وفي كانون الأول (ديسمبر)، حذّر الرئيس الأميركي جو بايدن إسرائيل من مغبة "القصف العشوائي" في غزة.
وقبل أيّ إجراء قانوني، ثمة حاجة إلى تحقيق مستقل فيما إذا كانت الغارات التي صاحبت عملية تحرير الرهينتين قد شهدت استخداما مفرطا للقوة من جانب إسرائيل بما يمكن اعتباره جريمة حرب. وفي ظل عدم ظهور نهاية للحرب في الأفق، سيتطلب مثل هذا التحقيق وقتا طويلا.
وتعرب طبيبة منظمة أطباء بلا حدود، التي رفضت الكشف عن اسمها، عن تشاؤمها العميق، قائلة لبي بي سي: "بصراحة، الذي مات هو المحظوظ ... أما الذي بقي فقد أصابته اللعنة وقد تخلّى عنه العالم كله .. هذا ليس عدلا ... لا أدري كيف يمكن لشخص أن ينام ملء جفونه وهو يعلم أن أطفالا يعانون بلا أي ذنب. إننا مدنيون".
ووردت رسالة هذه الطبيبة، التي شاهدت أشلاء بشرية، من داخل مدينة رفح المكتظة بنحو 1.5 مليون نسمة -ستة أمثال العدد الأصلي لسكانها.
وتهدد إسرائيل باجتياح رفح في غضون الأسابيع القليلة المقبلة، وترى في ذلك خطوة ضرورية لتدمير حماس. ويخشى اللاجئون المحتشدون في رفح من تكرار الفظائع التي شهدوها يوم الـ12 من شباط (فبراير) في أثناء الغارة الإسرائيلية لتحرير الرهينتين، ومن نسيان المجتمع الدولي لهم.
ويدفع اليأس طبيبة منظمة أطباء بلا حدود إلى القول: "أعلم أن هذه الرسالة لا تعني شيئا للكثير من الناس، كما أعلم أنها لن تغير من الأمر شيئا".
التعليقات