يتمتع الرائد أوليه كرافشينكو بضحكة مخفية يصعب مقاومتها، فهي ضحكة عميقة و"مخادعة"، و"مؤذية" في بعض الأوقات.
"ما زلت على قيد الحياة"، قال وهو يميل برأسه على كرسيه المتحرك، مثل متفرج يتعجب من خدعة سحرية.
في الذكرى السنوية الثانية للحرب، تجسد قصة كرافشينكو "المضطربة" جزءاً من الرحلة التي عاشها الكثير من الناس - جنود ومدنيون على حد سواء - حيث تمكنوا من فهم نوع التضحيات والصبر الذي يتطلبه هذا الصراع الطويل.
يبلغ كرافشينكو الآن خمسين عاماً، ونحن نجتمع للمرة الثالثة منذ شنت روسيا غزوها الأخير لأوكرانيا. لحيته - البنية والمشذبة عندما التقيت به لأول مرة في بلدة ليسيتشانسك المحاصرة في دونباس عام 2022 - أصبحت الآن متناثرة ورمادية.
التقينا لأول مرة في يوم دافئ في ليسيتشانسك، في نيسان (أبريل) 2022، حين قدنا السيارة إلى البلدة الواقعة على قمة التلة التي لا تزال تحت السيطرة الأوكرانية بشكل أو بآخر.
انطلقنا نحو الخطوط الأمامية في سيارته بسرعة كبيرة، وهو يحمل على جانبه بندقية، وصوت نيران المدفعية يتسلل عبر النوافذ المفتوحة.
وقال وهو يلعب دور المرشد السياحي: "انظروا هنا، إنها حفرة أحدثتها قنبلة روسية".
أخذنا كرافشينكو، المسؤول عن الفرق الطبية التابعة للواء 57، إلى نقطة إخلاء بين أنقاض مصنع قديم تعرض للقصف، ثم ساعدنا على التسلل، دون إذن، مروراً بمسؤولين مهمين، إلى المستشفى العسكري الرئيسي حيث كان العشرات من الجنود الأوكرانيين المصابين بالصدمة يرقدون بصمت في أسرّتهم.
"رجل عملي وغير تقليدي"، علّق أحد زملائه على أسلوب كرافشينكو بإبتسامة خجولة.
لقد شهد كرافشينكو الكثير من الحروب قبل الغزو الروسي، وبعد أن ترك وظيفته في إدارة مستشفى في وسط أوكرانيا، عمل طبيباً لدى الأمم المتحدة، وأمضى عدة سنوات في أفغانستان، وزار الصومال وجمهورية الكونغو الديمقراطية والسودان أيضاً.
وقال بينما كنا نقف بجانب كومة من الناقلات الملطخة بالدماء: "في كل مكان، دماء، دماء، دماء".
لكن في تلك الأيام الأولى كان لا يزال يبدو متفائلاً، ومقتنعاً بأن أوكرانيا يمكن أن تفوز بالحرب "بسرعة".
وقال: "الجنود الأوكرانيون أقوياء لأنها أرضنا، إنها بلدي، ابنتي وابني هنا، وهنا قلبي".
وأضاف: "أتمنى شيئاً واحداً فقط، وهو أنه خلال شهر واحد، سنطلق النار على كل روسي، وسيحتفظ جنودنا بمواقعهم وسنمنح العدو معركة جيدة".
ودّعنا أصدقاءنا وخرجنا من ليسيتشانسك بعد ظهر ذلك اليوم. وسيطرت القوات الروسية على البلدة بعد بضعة أسابيع ولا تزال تحت سيطرتها حتى الآن.
لقد مر عام كامل قبل أن نلتقي كرافشينكو مرة أخرى، هذه المرة على مشارف باخموت، وهي بلدة أخرى على خط المواجهة، على بعد 50 كيلومتراً إلى الجنوب الغربي.
وبدلاً من إلقاء التحية علي، قال: "ما زلت على قيد الحياة!"، وهي جملة أصبحت أسمعها بكثرة من جنود آخرين.
لكن ابتسامته كانت ممزوجة بالحزن، والبقع الداكنة من الإرهاق تحت عيني كرافشينكو جعلته يبدو وكأنه لطخ وجهه بالطلاء.
وقال وهو يصحبني في جولة حول المستودع الصغير الذي حوله فريقه إلى مستشفى ميداني مؤقت: "كان الأمر صعباً، لم أنم على الإطلاق الليلة الماضية".
لا أعرف مصيري
كان ذلك قبل يوم واحد من إعلان يفغيني بريجوزين، زعيم مجموعة فاغنر الروسية، "تمرده" قصير الأمد ضد الرئيس فلاديمير بوتين في تموز (يوليو) 2023.
وكانت باخموت نفسها قد سقطت في أيدي الروس قبل أسابيع، لكن الهجوم المضاد الذي روجت له أوكرانيا كان في مرحلته المبكرة وكانت هناك آمال قوية في نجاحه.
وبينما كنا نجلس في الخارج، ونختبئ تحت الأشجار لتجنب تحليق الطائرات الروسية في سماء المنطقة، أُطلقت قذيفتان باتجاهنا ولم تنفجر إحداهما، فعلّق كرافشينكو بضحكة قائلاً إنها "مجرد مزحة".
لكن لم يكن هناك ما يخفي انزعاجه. وقال: "الناس متعبون جداً، لقد كان عاماً ثقيلاً للغاية".
ثم بدأ كرافشينكو، دون سابق إنذار، في الحديث عن مستقبله، وهو الموضوع الذي لا بد أن يسيطر على تفكير العديد من الجنود بعد أشهر قضوها في خطر دائم.
وقال: "أفكر في الله وفي قدري، أنا أقوم بعملي وأريد أن أفعل ذلك على أكمل وجه، ولكن لا أعرف مصيري".
كان كرافشينكو فخوراً بحجم الخبرة التي اكتسبتها وحدته في اللواء 57 في الطب القتالي، وتحدث عن مشاركة هذه المعرفة مع الجيوش الأخرى. كان هاتفه مليئاً بمقاطع فيديو تظهر العمليات الأخيرة التي أجراها على جنود تمزقت أجسادهم من جراء الصواريخ.
ولكن بعد ذلك تغير كل شيء.
في وقت متأخر من إحدى الأمسيات، في تشرين الأول (أكتوبر) 2023، كان كرافشينكو يعمل في المبنى الذي انتقل إليه هو وفريقه الطبي، بالقرب من إيزيوم. كانوا قد أجروا للتو عملية جراحية لجندي مصاب بجروح خطيرة ووضعوه في سيارة جاهزة للنقل إلى مستشفى أكبر. عاد كرافشينكو وثلاثة آخرون إلى الداخل لجمع بعض المعدات.
وفي الساعة 23:40 أصاب صاروخ روسي المبنى.
قال كرافشينكو عندما التقينا للمرة الثالثة هذا الأسبوع متحدثاً عن زملائه خلال الحادث: "كان لسفيتلانا خمسة أطفال، ويوليا ثلاثة، ولم يكن فلاديسلاف متزوجاً وكان عمره 32 عاماً".
تغيرت ملامح وجهه عندما سألته عن الحادث وعن وفاة زملائه الثلاثة المقربين. وقال بصوت خشن: "إنه ثقيل للغاية، ولحظة صعبة جداً بالنسبة لي".
وكان الصاروخ نفسه الذي قتل الآخرين قد أدى إلى سقوط أنبوب ثقيل على ساقه، مما أدى إلى تهشيم ركبته اليسرى. تم نقل كرافشينكو إلى مستشفى في دنيبرو، ثم إلى كييف، وعاد الآن إلى مسقط رأسه كريمنشوك، على نهر دنيبرو.
وقال: "لقد أعطاني الرئيس زيلينسكي هذه"، وأظهر بعض الأوسمة ومسدساًً. ويجلس كرافشينكو على كرسي متحرك في الوقت الحالي، لكن يمكنه استخدام العكازات للنهوض خطوة أو خطوتين، ويتلقى علاجاً طبيعياً بشكل منتظم.
ومنذ إصابته، تقاعد من الجيش، لكنه ظل على اتصال مع خليفته، وهو طبيب أسنان سابق تطوع مكانه وانضم إلى اللواء 57.
وقال الطبيب الجديد إيهور باباريكين، مستخدماً الاسم الأوسط لكرافشينكو علامة على الاحترام: "ليونيدوفيتش رجل طيب، ورفيق جيد".
الخوف لا يفارقنا أبدا
وانتقل الفريق مؤخراً إلى قاعدة جديدة قريبة من مدينة كوبيانسك، والتي تستهدفها الآن القوات الروسية بشدة.
ولم يحقق الهجوم المضاد الذي شُنّ الصيف الماضي سوى القليل من التقدم، وتم مؤخراً طرد القوات الأوكرانية من أفدييفكا. وبدأت إمدادات الأسلحة الأمريكية في النفاد، وحذر الرئيس زيلينسكي من أنه بدون المساعدة الغربية فإن روسيا ستنتصر.
قال باباريكين: "توجد طائرات دون طيار في كل مكان، وقنابل انزلاقية. لقد أصبح الأمر خطيراً للغاية، لكننا متمسكون بخط الدفاع. لقد اعتدنا على هذا العمل الآن، لكن الخوف لا يفارقنا، ولكنك تعتاد عليه بطريقة ما". وكان ثلاثة ضحايا جدد، جميعهم يعانون من صدمة القذائف، يرقدون بهدوء على أسرة قريبة.
في منزله بالقرب من نهر دنيبرو، يصارع كرافشينكو حياته الجديدة بعد تركه الجيش.
"أود أن أعود إلى وظيفتي على الخطوط الأمامية لكن لا أستطيع، لكنني قمت بعملي بشكل جيد. بعد إصابتي، أريد أن أبدأ مشروعاً جديداً لبلدي، مستشفى عسكري أحقق فيه أحلامي، وأنا أعرف كيف أفعل ذلك." يقول كرافشينكو وهو يتململ بمقابض كرسيه المتحرك، وقد بدا عليه الإحباط.
ومثله كمثل العديد من الأوكرانيين في الوقت الحالي، يخشى كرافشينكو أن إحتمالية أن يفقد الغرب اهتمامه بدعم الحرب ضد روسيا. وقال بحزن: "ستكون حرباً طويلة، أوكرانيا هي خط المواجهة في أوروبا. وإذا خسرنا، فسوف نخسر بولندا وألمانيا ودول أخرى".
وقال بصوت أشبه بضحكة خافتة: "في غضون شهر واحد، سأركض مثل الريح، وبعد ذلك ستناديني باسم الريح".
كيف تغيرت روسيا منذ أن شنت حربها على أوكرانيا؟
كيف أنشأت الصواريخ الروسية قرية من الأيتام في أوكرانيا؟
التعليقات