لا تزال بعض أبواب قضية هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 مفتوحة، أو هي على الأقل لم تغلق بعد. أهم تلك الأبواب هو سجن غوانتانامو، ومسجون فيه من تقول الولايات المتحدة إنه العقل المدبر للتفجيرات، خالد شيخ محمد.

حاولت واشنطن لأكثر من مرة أن تطوي صفحة الاثنين، السجن بإغلاقه وشيخ محمد بمحاكمته وإدانته رسمياً، لكن أياً من الأمرين لم يتحقق. إلا أن وزارة الدفاع الأمريكية توصلت الآن وبعد انتظار طويل وحوارات عديدة إلى اتفاق مع شيخ محمد، واثنين من المتهمين معه هما وليد عطاش ومصطفى الهوساوي.

ويقضي المبدأ العام للاتفاق بأن يقر المتهمون بذنبهم ويعترفوا، مقابل ما يعتقد أنه تنازلات أمريكية تتضمن التعهد بعدم إنزال حكم الإعدام بهم.

خالد شيخ محمد. صورة أرشيفيةخالد شيخ محمد. صورة أرشيفية

"لا تفاصيل"

تتكتم وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) على تفاصيل الاتفاق، بسبب حرج الموقف وتعقيداته، إذ ينظر الأمريكيون بألم الى تلك الذكرى الحية كلما حل سبب لتذكرها، فكيف وهم يسمعون الآن بهذا الاتفاق، الذي قد يبدو إغلاقاً لفصل أساسي في قصة سبتمبر الأليمة، أو ربما يكون فتحاً لفصل جديد حول الخلاف على طريقة التعامل مع قضاياها المثيرة للجدل وشخصياتها الفاعلة.

ما نعرفه حتى الآن عن الاتفاق جاء من مصادر رسمية في البنتاغون، لكن تلك المصادر لم تكشف إلا العناوين العامة للصفقة.

البنتاغون هي المسؤولة عن محاكمة خالد شيخ محمد ومن معه، أمام محكمة عسكرية تتعثر منذ سنوات، في محاولة إيجاد طريق واضح للمضي في القضية.

أُلقي القبض على شيخ محمد في مدينة راولبندي في باكستان، في عملية استخباراتية أمريكية باكستانية مشتركة عام 2003، إذ اتهمته واشنطن بكونه عضواً كبيراً في تنظيم القاعدة الذي كان يقوده أسامة بن لادن، وبأنه العقل المدبر لهجمات سبتمبر.

نشأ شيخ محمد في الكويت، بعد أن هاجر إليها والده الباكستاني القادم من إقليم بلوشستان في باكستان.

قبل أن يستقر شيخ محمد في غوانتامو، نقلته واشنطن إلى سجون في دول أخرى للتحقيق معه بعد اعتقاله، وقيل الكثير عن تعرضه للتعذيب من أجل انتزاع الاعترافات منه.

وفي عام 2014، قال تقرير للجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأمريكي "إن شيخ محمد تعرض للتعذيب، بأسلوب الإغراق بالماء لنحو 183مرة".

يقوم النظام القانوني الأمريكي على تعهد مبدأي بالالتزام بمعايير حقوق الإنسان، والمساواة والمعاملة العادلة. لكن التناقض الكبير بين ذلك وبين اتباع أساليب التعذيب كان دائماً معضلة كبرى، في التعامل مع المرتبطين أو المتهمين بهجمات سبتمبر. وقد أعاقت مسألة استخدام التعذيب تقدم القضية قانونياً، إذ طالما خشي الادعاء العام ممثلاً بوزارة الدفاع أن يقوم القضاة بإلغاء القضية ضد شيخ محمد، إذا اعتبروا أنه "تعرض للتعذيب وأن الأدلة انتزعت منه قسرياً"، لذلك لم تتقدم القضية منذ عام 2012.

لكن ما حدث الآن يقدم نهاية لطالما أرادها الادعاء العام، فاعتراف خالد شيخ محمد بالتهم الموجهة إليه يعني طي صفحة مهمة، بالنسبة للتعامل القانوني مع القضية.

وتبقى فكرة تقديم تنازل للمتهمين بحد ذاتها محرجة، بل ومخيفة سياسياً. لذلك تملص البيت الأبيض من أي ارتباط بالاتفاق، إذ قال متحدث باسم مجلس الأمن القومي إن "إدارة الرئيس جو بايدن أخذت علماً بالاتفاق مع المتهمين، الذي أجراه مدعون عامون من وزارة الدفاع، لكن الرئيس والبيت الأبيض ليس لهما أي دور في العملية".

"انتقادات الجمهوريين"

ميتش مكونل
Reuters
وجه زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ، ميتش مكونل، انتقادات عنيفة للاتفاق

أما هجمات الخصوم السياسيين للإدارة فقد انهالت بسرعة. وقال زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ، ميتش مكونيل، وهو من حزب الرئيس السابق دونالد ترامب الجمهوري: "إن الأسوأ من مبدأ التفاوض مع الإرهابيين هو التفاوض معهم بعد إلقاء القبض عليهم". واتهم مكونيل إدارة بايدن بـ"الجبن والتخاذل أمام الإرهاب".

كما هاجم مرشح ترامب لمنصب نائب الرئيس، جي دي فانس، إدارة بايدن ونائبته كامالا هاريس، وهي الآن المرشحة الأوفر حظا للحصول على ترشيح حزب بايدن الديمقراطي للرئاسة.

واتهم فانس بايدن وهاريس باستهداف ترامب سياسياً في القضايا التي رفعت ضده، "بينما إدارتهما منهمكة في التوصل إلى اتفاقات تعطي تسهيلات لإرهابيي 11 سبتمبر"، بحسب وصفه.

لكن موقف أسر ضحايا هجمات سبتمبر مهم جداً في هذا السياق، وهو يبدو غير منساق في الجدل السياسي بل يركز على قضايا أكثر اتصالاً بالقضية ومصيرها. فبعض أسر الضحايا كانت قلقة من احتمال أن لا تصل القضية أبداً إلى المحاكمة والإدانة، بسبب إشكالية استخدام التعذيب وعدم إحراز تقدم في مسار اكتمال البناء القانوني لها.

لقد كانت هناك خشية جدية من جانبهم من أن يموت شيخ محمد والسجناء الذين معه، دون أن تتم إدانتهم ومن غير أن تصل القضية إلى أي حكم. آخرون من أفراد أسر الضحايا كانوا يطالبون بإيقاع عقوبة الإعدام بهم، وكانوا يضغطون على الحكومة لإيصال القضية إلى المحاكمة، حتى لو انتهى الأمر إلى الحكم بإبطال القضية.

سيحظى أهالي الضحايا الآن بفرصة توجيه أسئلة مباشرة إلى خالد شيخ محمد، والمتهمين الآخرين معه، عن أدوارهم ودوافعهم في هجمات سبتمبر.

كانت إدارة الرئيس الأمريكي السابق، جورج دبليو بوش، قد أنشأت معتقل غوانتامو في عام 2002 بعد حربها على أفغانستان، ووضعت فيه من اتهمتهم بالانخراط في أعمال عنف ضد الولايات المتحدة، ووصل عدد المعتقلين به في مرحلة ما إلى 800 معتقل.

كان اعتقالهم على أي أرض أمريكية يعني أنهم سيُشملون بالقوانين الأمريكية، ومن ثم سيحصلون على ضمانات شبيهة بما يحصل عليه المواطن الأمريكي، وهو أمر ما كان الأمريكيون شعباً وحكومة ليرضوا به في سنوات غضبهم الأولى، بعد هجمات سبتمبر.

أما الاحتمال الثاني، فقد كان يعني معاملتهم كأسرى حرب وفق المعايير والمعاهدات الدولية، وذلك أيضاً لم يكن أمراً مقبولاً أمريكياً. وانخفض عدد السجناء في السنوات التي تلت ذلك مع جهود واشنطن لطي تلك الصفحة من التاريخ، وهو يبلغ الآن 30 سجيناً.

أما خالد شيخ محمد ووليد بن عطاش ومصطفى الهوساوي سيخضعون الآن لمحاكمة إجرائية مصغرة. ربما تجرى المحاكمة العام المقبل بعد إكمال تحضيراتها، إذ لابد من تشكيل لجنة محلفين عسكرية. وستستمع تلك اللجنة إلى الأدلة ومن ضمنها شهادات ممن شهدوا الهجمات.

بعد ذلك تصل المحاكمة إلى الحكم، ويعرب القاضي عن تقييمه وقراراته بخصوص كل الإجراءات والاتفاقات. لكن لن يكون من المستغرب أن يتعرض هذا المسار إلى الاختلال، بسبب تغير في موقف الأطراف المباشرة أو غير المباشرة. فهذا التحرك في القضية اليوم يذكر الأمريكيين، بأن واحدة من أكثر القصص حزناً في تاريخهم ما زالت تحتوي على أسئلة وتفاصيل معلقة، عن المأساة وأسبابها ونتائجها.