لم يكن أبو وليد يتوقع أن رحلة عودته إلى سوريا مع ابنه محمود ستنتهي بمأساة. بعد تسع سنوات من اللجوء في لبنان، وجد أبو وليد نفسه في زنزانة مكتظة، يشاهد ابنه محمود، البالغ من العمر 18 عاما يلفظ أنفاسه الأخيرة وسط ظروف قاسية.
منذ أواخر سبتمبر 2024، تسببت الغارات الإسرائيلية على لبنان في تهجير مئات الآلاف من السوريين، الذين عادوا إلى بلدهم رغم استمرار المخاطر فيها. يروي هذا التقرير مأساة ثلاثة سوريين لجأوا سابقا إلى لبنان، ليجدوا أنفسهم أمام مصير محفوف بالمخاطر عند العودة إلى وطنهم.
"علمت أن ابني سيموت"
هرب أبو وليد من الحرب في سوريا مع عائلته عام 2016 واستقر في منطقة بعلبك في البقاع اللبناني. لكن مع ازدياد الغارات الإسرائيلية في الأشهر الأخيرة، باتت حياتهم هناك غير آمنة.
يقول أبو وليد: "كان منزلي قريبا جداً من موقع لحزب الله، وكان الخوف يسيطر علينا باستمرار، فقد كانت الانفجارات تهزّ جدران بيتنا وفجأة تحوّلت المنطقة إلى مدينة أشباح."
وعلى الرغم من وجود بعض المناطق الأكثر أمانا في لبنان، كانت خيارات الإقامة محدودة بالنسبة للسوريين. يروي أبو وليد أن "صديقا حاول الانتقال إلى الشمال، لكن البلدية طردته." في ظل هذه الظروف، لم يعد هناك خيار سوى العودة إلى سوريا.
بدأ أبو وليد بإرسال زوجته وأطفاله الصغار إلى سوريا، حيث تمكنوا من عبور الحدود بأمان. لكن ابنه الأكبر محمود، الذي بلغ الثامنة عشرة قبل وقت قصير، كان يواجه خطر التجنيد الإجباري فور عودته، ما دفعهم إلى اللجوء لخيار التهريب لتجنب نقاط التفتيش العسكرية. كانت تكلفة الرحلة 650 دولاراً للشخص، وكان الهدف الوصول إلى مناطق المعارضة في إدلب، حيث كان يأمل في بناء حياة جديدة بعيداً عن تهديدات التجنيد.
عبر أبو وليد وابنه حواجز عدة تابعة للجيش بسلام، لكن عند وصولهما إلى خان شيخون، توقفت رحلتهما عندما واجها حاجزا يقول أبو وليد إنه تابع للمخابرات السورية، بدأت عنده عملية استجواب مكثفة. حاول أبو وليد إقناع العناصر بأنهما متوجهان إلى حلب، لكن رجال المخابرات اتهموهما بمحاولة الوصول إلى تركيا أو مناطق المعارضة لمجرد أنهما من تلك المناطق أصلاً. "ارتعد ابني محمود من الخوف، وبات غير قادر على الإجابة بسبب توتره الشديد"، يقول أبو وليد.
بعد ساعات من الاستجواب، اقتيدا إلى فرع المخابرات في خان شيخون، ووُضعا في زنازين مكتظة، "كنا ثلاثين شخصا في زنزانة صغيرة، وكان محمود في زنزانة أخرى مع نحو 66 شخصا في مساحة ضيقة لا تتجاوز 6x4 أمتار"، يضيف أبو وليد.
بدأت صحة محمود تتدهور سريعا داخل السجن؛ فقد كان يعاني من إسهال وتقيؤ شديدين، ومع مرور الأيام، ازدادت علامات الهزال وضوحا عليه. حاول أبو وليد، والد محمود، يائسا إقناع الحراس بالسماح له برؤية ابنه ونقله إلى زنزانته للعناية به. لكنه لم يعلم بحقيقة وضع ابنه إلا عبر معتقل آخر، استطاع لاحقا الخروج ونقل أخبار محمود.
"عندما أحضروه أخيرا إلى زنزانتي، كانت حالته مأساوية"، يقول أبو وليد بحزن. "أغمي عليه فور وصوله، طلبت منهم المساعدة، لكنهم تأخروا كثيرًا. كان الوقت قد فات لإنقاذه."
بقي محمود بضع ساعات بين أيديهم قبل أن ينقلوه إلى العلاج. يقول والده بألم: "كنت أعرف أن النهاية قريبة. بدا وكأنه يموت أمام عيني". بعد يومين، استدعي أبو وليد إلى مكتب رئيس الفرع الذي أخبره بوفاة ابنه.
دُفن محمود في ريف حماة، وأُطلق سراح أبو وليد بعد ذلك بوقت قصير. الآن يعيش أبو وليد مع زوجته وأطفاله الباقين في إدلب، ويقول إنه لم يعد يفكر في العودة إلى لبنان.
يتوجه العائدون الفارون من لبنان إلى وجهات مختلفة، بعضها تحت سيطرة الحكومة وأخرى تحت سيطرة المعارضة، وفقا لشهادات من تحدثنا معهم. وكالة الأنباء السورية "سانا" أفادت بأن السلطات السورية تعمل على تسهيل دخول العائدين من لبنان، وتوفير خدمات لوجستية وطبية، إضافة إلى تأمين وسائل نقل إلى العاصمة دمشق ومراكز الإقامة في ريفها. ورغم ذلك، تشير البيانات الحكومية إلى أن هذه التسهيلات تقتصر على أولئك العائدين إلى القرى والمناطق التي تصفها بـ "الآمنة والمحررة من الإرهاب"، مما يستبعد العائدين إلى مناطق مثل إدلب وشمال سوريا، التي لا تزال خارج سيطرة الحكومة.
"خاتم زواجي أنقذ حياة زوجي"
لم تملك أم جمعة سوى خاتم زواجها خلال رحلتها الشاقة التي قطعتها مع أسرتها من منزلهم المدمر في جنوب لبنان إلى إدلب شمال سوريا.
بعد 12 عاما من اللجوء في لبنان، قررت أم جمعة وزوجها فريد سليمان، 42 عاما، وأطفالهما السبعة، مغادرة منطقة برج الشمالي قرب صور. كان القصف الإسرائيلي قد وصل إلى عتبة منزلهم تقريبا.
يروي فريد اللحظة التي دفعتهم للهروب: "استهدفت البناية المجاورة بثلاثة صواريخ، وبعد أن خرجنا على عجل، فيما كنا بالكاد على بعد كيلومتر واحد، قُصف بناؤنا".
رغم نجاتهم بأعجوبة، لم يكن طريقهم نحو الأمان أقل خطورة. في بيروت، وجدوا أنفسهم بلا مأوى ولا مال، وسط ظروف قاسية. يتذكر فريد اللحظة التي فقدوا فيها ابنتهم ذات الثمانية أعوام وسط الفوضى بعد انفجار ضخم هز العاصمة، مرت أربعة أيام قبل أن يعثر عليها عناصر الدفاع المدني. يقول فريد: "مجرد الحديث عن تلك الأيام مؤلم، لا أريد أن أتذكرها ما حييت."
عانت الأسرة من التشرد، ومن نظرات الناس الفضولية وحتى المضايقات في الشارع، إلى درجة أن بعض المارة التقطوا لهم صوراً. بعد أيام من التشرد، قدم لهم أحد أفراد الدفاع المدني مبلغ 200 دولار كمساعدة، ما مكّنهم من دفع أجرة سيارة تقلهم إلى الحدود السورية.
لكن المعاناة لم تنته بعد عبورهم الحدود. يقول فريد: "عند حاجز قرب حمص، لم تكن لدي أي أموال لدفع الرسوم. تعرضت للضرب والإهانة لمجرد أنني كنت مفلسا". حين حاولت العناصر اعتقاله، خطرت لأم جمعة فكرة غير متوقعة لإنقاذه، ولم تتوقع أن خاتم زواجها البسيط سيكون كفيلاً بإنقاذ زوجها.
"عندما طلب عناصر الحاجز مالاً للإفراج عنه، لم يكن لديّ أي شيء، لكن تذكرت خاتمي وقدّمته مباشرة"، تضيف أم جمعة.
تقول أم جمعة إنها لم تكن متأكدة إن كانوا سيقبلون بالخاتم، لكنها شعرت بارتياح كبير عندما وافقوا على إطلاق سراح زوجها، "أعتقد أن أي شخص كان سيفعل ذلك لإنقاذ شريكه."
يعيش الآن فريد وأم جمعة وأولادهم في مخيم في إدلب، يفتقر لأبسط مقومات الحياة. يقول فريد: "سوريا اليوم ليست كما كانت، لا ماء كافيا ولا مراحيض، تمنيت لو أنني مت في لبنان بدلًا من العيش في هذه الظروف."
ورغم إعلان الحكومة السورية إيقاف الرسوم الرسمية على المعابر الحدودية، إلا أن العائدين يقولون إنهم يواجهون رسوما غير رسمية تتوزع على طول الطريق، بدءاً من الحواجز التابعة للقوات الأمنية وصولاً إلى تلك التي تسيطر عليها قوات المعارضة. يُجبر العائدون على دفع مبالغ مالية متفاوتة، تفرضها الجهات المسيطرة عند كل نقطة عبور، بحسب قولهم، مما يزيد من أعباء الرحلة.
"اعتقلوا صديقي أمامي ولا نعرف شيئا عنه الآن"
عبدالله الحمادي، 33 عاما، فرّ من جنوب لبنان إلى سوريا مع زوجته وأطفاله الخمسة بعد أن أمضى عشر سنوات صعبة في البلاد. يقول: "قررت أن أرسل زوجتي وأطفالي أولًا إلى دمشق بتكلفة 1150 دولارًا، لضمان عبورهم بأمان." بعد ذلك، رتب عبدالله رحلته الخاصة، برفقة صديقه حسام (اسم مستعار) الذي انطلق معه في جزء من الرحلة، قبل أن يبقى مصيره مجهولا.
عند وصولهما إلى الحدود السورية-اللبنانية، يقول عبدالله إنهما عبرا حاجز الأمن العسكري السوري بسلام؛ حيث تم التدقيق في أوراقهما دون أي معوقات.
لكن الخوف بدأ ينتاب على عبدالله عندما وصلا إلى مركز الهجرة والجوازات، "لاحظت عناصر الأمن يعتقلون أشخاصاً آخرين عند الحدود"، يقول عبدالله. حاول حينها أن يحذر صديقه حسام من الخطر، مقترحا العودة إلى لبنان، لكن حسام أصرّ على مواصلة الرحلة.
بعد فترة وجيزة أعيدت هوية عبدالله، فيما بقيت أوراق حسام معلقة لدى العناصر الأمنية. "فجأة، ظهر عناصر من المخابرات الجوية وطلبوا من حسام مرافقتهم للتحقيق"، يتذكر عبدالله اللحظة التي سلّمه فيها حسام كل أغراضه الشخصية قبل أن يؤخذ بعيداً. "كنت عاجزا تماماً، وشعرت بعبء عندما أدركت أنه عليّ إخبار عائلته بأن ابنهم محتجز لدى المخابرات دون أي تفاصيل."
والدة حسام، المكلومة، تروي بقلق: "ابني جاء من لبنان بعد 13 عاما بشكل نظامي، واحتجزته المخابرات السورية. لا أعلم لماذا اعتقلوه وهو يحاول الدخول بشكل قانوني. ابني الآخر أيضاً معتقل منذ 11 عاما، ولا أريد أن يكون مصير حسام مشابهاً. أناشد العالم لينقذنا."
عبدالله الآن يقيم في ريف إدلب الجنوبي، في منطقة لا تخلو من الخطر، فهي خط تماس بين مناطق المعارضة ومناطق سيطرة النظام السوري. لكنه يقول: "أفضل الموت في بلدي على هذه الحياة التي أعيشها الآن."
حاولت بي بي سي التواصل مع الحكومة السورية للحصول على تعليق حول الإجراءات المتبعة لاستقبال المواطنين السوريين العائدين من لبنان، وخاصةً أولئك الذين ينوون العودة إلى مناطق إدلب والشمال السوري، ولكن لم نتلقَّ أي رد.
وحذرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقرير صدر بتاريخ 30 تشرين الأول (أكتوبر) من المخاطر التي يواجهها السوريون الفارون من العنف في لبنان عند عودتهم إلى سوريا، حيث تقول إنهم يتعرضون لانتهاكات شديدة من قبل الحكومة السورية تشمل الإخفاء القسري، والتعذيب، وحتى الوفاة أثناء الاحتجاز.
ووفقاً لتوثيقات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، تم اعتقال ما لا يقل عن 26 شخصاً من السوريين العائدين من لبنان حتى 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2024.
تسببت الغارات الإسرائيلية ضد لبنان منذ أواخر أيلول (سبتمبر) 2024 بمقتل 2,710 شخصا حسب وزارة الصحة اللبنانية، وبحسب "المرصد السوري لحقوق الإنسان" 207 على الأقل منهم سوريون.
وتقدر الحكومة اللبنانية أن ما يقارب 1.2 مليون شخص قد نزحوا من بيوتهم. وحسب الأمم المتحدة، عبر أكثر 460 ألف شخص إلى سوريا من لبنان حتى 12 أكتوبر، 80 بالمائة منهم سوريون والبقية لبنانيون ومن بعض الجنسيات الأخرى.
التعليقات