يُطهى الثوم في أوانٍ معدنية ضخمة تُرتّب على شكل صف طويل، وتُسخّن على نار حطب، ثمّ يُضيف الطهاة الطماطم والفلفل المعلبين مع حفنات من التوابل، ويُحرّكون الصلصة بملاعق ضخمة.

ما يُحضّر هنا ليس مجرد غذاء، بل هو طوق نجاة.

افتتحت مؤسسة المعونة الأمريكية للاجئين في الشرق الأدنى (أنيرا) هذا المطبخ المجتمعي في حي الزوايدة وسط غزة، بعد بدء وقف إطلاق النار قبل ستة أسابيع.

لدى هذه المنظمة الإنسانية الأمريكية أيضاً، مطبخ آخر في المواصي جنوب القطاع، زارته بي بي سي في أوائل مايو/أيار الماضي.

في ذلك الوقت، وبعد شهرين من الحصار الإسرائيلي الذي منع دخول جميع المواد الغذائية والسلع الأخرى، كانت المخزونات تتضاءل.

والآن، مع السماح بدخول المزيد من المواد الغذائية، تحسّن الوضع.

قائد فريق أنيرا سامي مطر في مطبخ مجتمعي في وسط قطاع غزة
BBC
يقول سامي مطر من أنيرا إن مطابخ المؤسسة غير قادرة على تأمين البروتينات الأساسية مثل اللحوم

تُقدّم أنيرا يومياً وجبة ساخنة لأكثر من 20 ألف شخص.

ويقول سامي مطر وهو قائد فريق في أنيرا: "انتقلنا من استخدام 15 وعاءً في السابق، إلى 120 وعاءً يومياً الآن، مستهدفين أكثر من 30 مخيماً للنازحين".

ويضيف مطر: "نخدم الآن أكثر من 4 آلاف عائلة مقارنةً بـ 900 عائلة فقط قبل ستة أشهر".

لطالما كان الحصول على الغذاء مصدر قلق مستمر منذ بدء الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، في ظل فرض إسرائيل قيوداً مشددة على دخول الإمدادات عبر معابر غزة.

وأدى ذلك إلى تفاقم الوضع الإنساني المتردي، وأُعلنت المجاعة في مدينة غزة في أغسطس/آب الماضي، وكان من المتوقع أن تمتد إلى مناطق أخرى من القطاع.

وتواصل الأمم المتحدة دعوتها للسماح بدخول المزيد من المساعدات.

شاحنة تحمل مساعدات تنتظر على الجانب الإسرائيلي من معبر كرم أبو سالم الحدودي مع جنوب غزة في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2025
Reuters
سمحت إسرائيل لمئات شاحنات المساعدات بالدخول إلى غزة يومياً منذ بدء وقف إطلاق النار

قائمة الطعام اليوم تتضمن معكرونة سباغيتي تُقدم مع خضروات معلبة وصلصة طماطم، ومُنكّهة بكمية وفيرة من التوابل.

أومأ سامي برأسه موافقاً وهو يتذوق ملعقة.

وبينما تنجح (أنيرا) في توفير المزيد من الغذاء، الذي تُدخله إلى غزة شريكتها، منظمة (وورلد سنترال كيتشن) الإنسانية الأمريكية، لا تزال هناك مكونات أساسية مفقودة لتحسين النظام الغذائي للناس.

يقول مطر: "نقتصر في الغالب على طهي ثلاثة أنواع فقط من الوجبات أسبوعياً: الأرز والمعكرونة والعدس. ونعمل جاهدين لإضافة خضراوات مثل الفلفل الحلو والبصل والبطاطس. هذا يُمكّننا من تحسين المذاق والقيمة الغذائية".

ويضيف: "نحتاج إلى تنويع الطعام، لضمان توفير خضروات طازجة وبروتينات أساسية مثل اللحوم والدجاج. هذه المواد الأساسية ممنوعة من دخول غزة لتوزيع المساعدات الإنسانية".

في الوقت الحالي، لا تُستورد اللحوم والدواجن الطازجة إلا من قبل التجار. فهي باهظة الثمن بالنسبة لمنظمات الإغاثة التي لا تستطيع شراؤها في قطاع غزة.

منذ وقف إطلاق النار، لم تُقدّم (أنيرا) وجبات تحتوى اللحوم إلا بالاستعانة باللحوم المُعلّبة.

تقول (أنيرا) إن مطابخها تفتقر أيضاً إلى الأدوات والأغلفة وأسطوانات الغاز، التي تُعدّ أنظف للطهي.

قبل ستة أشهر، عندما زار صحفي مستقل من بي بي سي مطبخ المواصي، كانت الخيول والعربات تُستخدم لنقل أوعية الطعام إلى المخيمات.

الآن، مع عودة دخول الوقود إلى غزة، تُستخدم شاحنة صغيرة لنقل الوجبات إلى حيث ينتظرها الناس.

والمعكرونة في غزة خيارٌ شائع.

ويصرخ طفل صغير ذو شعر أحمر فرحاً. "ذرة حلوة وكل شيء!".

ويبتسم ابتسامة عريضة للأطفال الآخرين وهم يجلسون على الأرض ويبدؤون في أكل المعكرونة بأيديهم.

صبي يتناول الطعام
BBC
لا يزال مئات الآلاف من سكان غزة في حاجة ماسة إلى المساعدات الغذائية

خلال الأسبوع الماضي، أفادت الأمم المتحدة أن عدد الوجبات اليومية الموزعة في غزة عبر شبكة من المطابخ التي تديرها منظمات مختلفة، وصل إلى 1.4 مليون وجبة، بزيادة عن أقل من مليون وجبة قبل شهر واحد فقط.

ويبلغ إجمالي سكان القطاع أكثر من مليوني نسمة.

لدى أنيرا قائمة بأسماء من فُحصوا لتلقي المساعدات في المخيمات.

معظم الناس يأتون من شمال غزة، حيث دُمرت منازلهم في الحرب، وفقدوا أحباءهم، ولا يملكون المال.

تقول عايدة صالحة من مدينة غزة: "نعيش على ما يقدمه المطبخ الإنساني - التكية - يحضرون لنا الطعام والماء والخبز. قد نحصل على الخبز مرة واحدة في الأسبوع أو مرة كل أربعة أيام".

وتعيش صالحة - وهي أم لستة أطفال - مع أقارب آخرين في خيمة تقول إنها انهارت عليهم خلال الأمطار الغزيرة الأخيرة.

وتضيف: "أقسم أن شيئاً لم يتغير منذ وقف إطلاق النار. كنا سعداء فقط بتوقف سفك الدماء المستمر".

أمرأة في قطاع غزة تحمل قدراً من المعكرونة
BBC
عايدة صالحة، أم نازحة لستة أطفال، تعيش مع أقارب آخرين في خيمة

وتضغط وكالات الإغاثة، على إسرائيل لفتح جميع المعابر الخمسة المؤدية إلى غزة، إذ تعمل منها ثلاثة فقط حالياً.

وتطالب بتخفيف القيود المفروضة على عمليات بعض المنظمات الإنسانية القائمة - بسبب مشاكل التسجيل الإسرائيلية - حتى تتمكن من إدخال إمداداتها.

في الوقت الحالي، أفاد برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة أن ربع الأسر في غزة يتناولون وجبة واحدة فقط يومياً.

ويشير البرنامج إلى أن أسعار المواد الأساسية، مثل الخضراوات وزيت دوار الشمس والدقيق، انخفضت في الأسواق المحلية، على الرغم من أنها لا تزال أعلى بكثير مما كانت عليه قبل عامين، أي قبل الحرب.

وفي استطلاعات الرأي، أفادت ثلثا الأسر بمواجهة صعوبات في شراء الطعام - في جميع الحالات تقريباً بسبب نقص السيولة النقدية.

ويقول عبد الكريم عبد الهادي، وهو أب لسبعة أطفال من جباليا شمال غزة ويتلقى مساعدات غذائية من (أنيرا): "دخلنا العام الثالث منذ الحرب، ولم يتبقَّ لي مال - لا ذهب، لا ممتلكات. أنا منهك تماماً".

يُضيف عبد الكريم: "استشهد ابني. دُمّرت طوابق منزلنا الأربعة بالكامل. فقدنا سيارتين. نحن مُدمّرون بالكامل. نعيش في وضع كارثي كل يوم".

فلسطينيون في سوق في مخيم النصيرات للاجئين في وسط قطاع غزة في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2025
Anadolu via Getty Images
الأسواق المحلية تعود إلى الحياة، لكن أسعار المواد الغذائية أصبحت بعيدة عن متناول العديد من الناس

ومع بداية الطقس البارد والممطر، تزداد الحياة صعوبة.

يبذل عمال الإغاثة، مثل سامي مطر، قصارى جهدهم لمساعدة سكان المخيمات.

يقول: "إنّ محادثاتنا مع العائلات في المخيمات تُفجع القلب".

ويضيف: "المشاعر الغامرة تتمثل في شعورٌ عميقٌ بالريبة والإرهاق. لا يرون طريقاً واضحاً للعودة إلى ديارهم. ينتابهم القلق بشأن كيفية تدفئة أطفالهم وتأمين طعامهم".

وبعد موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن غزة هذا الأسبوع، يترقب الناس ما سيحدث لاحقاً، إذ إن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس لا يزال هشاً، لكنهم في أمسّ الحاجة إلى استمراره.

ويقول مطر: "أمل المستقبل بسيط للغاية. يريد الناس أن يعيشوا في مكان آمن وأن يتمكنوا من طهي وجبة ساخنة لأطفالهم بحب وكرامة".