فقدت الولايات المتحدة ذرائعها لغزو العراق. ذلك بأن لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ توصلت الى أن الأسباب الرئيسة للحرب على العراق، ومنها ان نظام صدام حسين يملك أسلحة دمار شامل، كانت خاطئة ومبنية على تقارير غير صحيحة ومبالغاً فيها وضعتها أجهزة الاستخبارات.
السناتور الديمقراطي الواسع النفوذ وعضو لجنة الاستخبارات كارل ليفن اتهم ادارة الرئيس بوش بمواصلة إعطاء الانطباع بوجود رابط بين تنظيم “القاعدة” والنظام العراقي السابق على رغم إخفاق وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي إيه” في تقديم دليل ملموس في هذا المجال. ليفن أشار ايضا الى ان “ادارة بوش وليس الوكالة هي التي ضخّمت تعاون “القاعدة” مع نظام صدام لتبرير شن الحرب”.
جورج بوش أقرّ بعدم العثور على أسلحة دمار شامل. لكنه استمر في المكابرة بقوله: “كنّا على صواب بذهابنا الى العراق”. لماذا؟ الجواب: “أطحنا عدوا معلنا لأمريكا كانت لديه القدرة على إنتاج أسلحة قتل شامل وعلى نقل هذه القدرة الى إرهابيين”.
انها ذريعة قديمة - جديدة لتبرير شن الحرب يقدّمها بوش بعد إنكشاف ذرائعه السابقة. غير ان أهم ما تنطوي عليه تلك الذريعة هي محاكمة النيات. الإرتياب وحده يكفي، في عرف بوش، لغزو بلد آخر وتدمير عمرانه وتقتيل سكانه، واحتلال أرضه.
حتى الارتياب بحاكم او نظام لشن الحرب وتدويم الاحتلال يبدو انه لا يكفي، احياناً، بدليل أن مصدراً في وزارة الدفاع العراقية اورد معلومات (نشرتها صحيفة عريقة) مفادها ان وحدات من ميليشيا “البشمركة” تتدفق على العاصمة والموصل وكركوك ل “المساهمة في تعزيز العملية الأمنية في وجه تصاعد العمليات الإرهابية”.
أضاف المصدر المذكور ان “مصلحة الأكراد الاستراتيجية تكمن في تقوية وجودهم العسكري في بغداد وفي المناطق “الحدودية” (أي كركوك والموصل وبعقوبه!) لإسباب أهمها ان يكونوا مستعدين دائما لإجهاض أية محاولة سياسية معادية للمشروع الإقليمي الكردي في العراق”.
مسؤولون في الحزب الديمقراطي الكردستاني (البرزاني) والاتحاد الوطني الكردستاني (الطالباني) نفوا وجود قوات ل “البشمركة” في بغداد. غير ان الحكومة المؤقتة لم تتبرع بنفي موازٍ الأمر الذي أضفى على المعلومات المتداولة شيئا من الصدقية.
يتردد في بغداد ايضا ان تدفق قوات “البشمركة” الى العاصمة جاء بعد إعلان حكومة إياد علاوي استراتيجيتها الأمنية لمكافحة “الإرهاب”. فقد نُسب الى مسؤول في الاتحاد الوطني الكردستاني قوله ان القيادة الكردية تؤيد إرسال قوات “البشمركة” الى بغداد، “إذا كان ذلك ضروريا لدعم السياسة الأمنية للحكومة المؤقتة، لأنه من المهم ان لا نؤخذ على حين غفلة إذا ظهر نظام حكم مركزي يعاود إضطهاد الأكراد”.
مصادر اخرى نسبت الى نائب رئيس الحكومة للشؤون الأمنية برهم صالح - وهو مسؤول كردي بارز - وعداً بأن تكون القوات الكردية النظامية على أهبة الاستعداد لمساندة أية خطط لضرب مناطق تشكّل بؤر عنف مثل الفلوجة وابو غريب والرمادي وبعقوبة وتكريت.
هذا كلام خطير إذا ثبتت صحته. ذلك بأنه يفسح في المجال لحدوث صدامات مسلحة بين جمهور مؤيد للمقاومة في بغداد ومناطق ما يُسمى “المثلث السني”، وجمهور كردي في بعض احياء بغداد وبعض المدن المختلطة في تركيبتها السكانية مؤيدٍ للحكومة المؤقتة.
لا استغرب ان يكتنف هذه المعلومات المتداولة مقدار وفير من المبالغة، وحتى من الكذب، اذْ ليس من مصلحة الأكراد، كما سائر مكوّنات الشعب العراقي، “لبننة” الصراع على نحوٍ يجّر الفئات العراقية الى حرب أهلية كالتي عانى منها لبنان سحابة خمس عشرة سنة. وليس من شك في ان مؤدى حرب أهلية محتملة تمزيق البلاد شعبا ومؤسسات، وتبرير تمديد إقامة الاحتلال الأمريكي في ربوعها.
وحدها الولايات المتحدة لها مصلحة في “لبننة” الصراع. فهي اذْ تبرر تدويم الاحتلال تسهم، فوق ذلك، في تحقيق غرضين خطيرين: تسهيل تقسيم العراق لتأمين السيطرة على ثروته النفطية، إنتاجا واحتياطا، ومساعدة “إسرائيل” على إقامة ما تسميه “حدوداً آمنة”، وهي عبارة عن جمهوريات موز قميئة مبنية على أسس أثنية وقبلية ومذهبية يُراد نشرها على إمتداد بلاد الشام وبلاد الرافدين.
في هذا الإطار، يمكن تفسير دافع أمريكا الى مباشرة محاكمة صدام حسين. ذلك ان المحاكمة أفضت وستفضي بإطراد الى تأجيج العصبيات والانقسامات وإيجاد الذرائع اللازمة لتقسيم البلاد. أليس مفجعا ان يتلهّى الناس عن مقاومة الاحتلال بالانقسام الى مؤيدين لصدام ومعارضين له، بل الى مطالبين بعودته الى السلطة من جهة ورافضين ذلك، من جهة اخرى، حتى حدود التهديد بقتل المحامين الذين يتبرعون بالدفاع عنه!
رغم كل المحاولات الخبيثة، أحبط وعي العراقيين فتنة مذهبية كان يُراد لهم ان ينزلقوا اليها. غير ان الرهان على الوعي وحده لا يكفي. ثمة حاجة عميقة وشاملة الى عقد مؤتمر وطني جامع للقوى القومية والإسلامية واليسارية الحية من اجل التوافق على بناء جبهة وطنية وإقرار برنامج مرحلي لمقاومة الاحتلال وإنهائه وإعادة تأسيس الدولة على اسس الديمقراطية والعدالة وحكم القانون والإنماء المتوازن، وعودة العراق الى الاضطلاع بدوره العربي.
لا مسوّغ للتهاون في مقاومة الاحتلال، كما لا مسوّغ للدعوة الى عودة النظام السابق.
لا مصلحة في اعتماد العنف الأعمى ضد المدنيين الابرياء او ضد المدنيين من المتعاونين مع الاحتلال لأنه يرتد على الشعب نفسه ويباعد بينه وبين المقاومة.
لا مصلحة للأكراد في الرهان على سياسة جورج بوش في العراق والمنطقة لأن لا ضمانة لإعادة انتخابه. حتى لو فاز بولاية ثانية فانه مضطر الى التراجع عن بعض مواقفه وتدابيره الفجة بسبب الأذى الذي ألحقته بأمريكا سياسيا واقتصاديا، لا سيما بإزاء حلفائها الأوروبيين وأصدقائها العرب.
لا مصلحة للعرب في استعداء الكرد او في إنكار حقوقهم ضمن عراق ديمقراطي موّحد لكل أبنائه.
لا مصلحة للكويتيين في ممالأة الأمريكيين على حساب العراقيين لأن الإخوة القومية والجيرة الجغرافية والمصالح المشتركة أبقى وأولى وأفعل.
هذه الدعوات تبقى مجرد أُمنيات ما لم تقترن بجهود صادقة وفاعلة، فكرية وعملية، لتغيير موازين الارادات كسبيل لتغيير موازين القوى لمصلحة الشعب العراقي في مواجهة أعداء وحدته واستقلاله وديمقراطيته المنشودة ودوره العربي المرتجى.
التحديات كثيرة وكبيرة، فلا بد من ان تكون الاستجابات في حجمها لتغدو المواجهة محكومة بإرادة النصر.