الشرق الأوسط اللندنية: السبت: 28 ـ 05 ـ 2005
في العام 1999 زرت العراق، وكانت حينها إمكانات إعداد مادة صحافية جدية أمراً غاية في الصعوبة خصوصاً حين يتعلق الأمر بالتحقيقات التلفزيونية. ولا حاجة لتكرار كيفية تعاطي نظام صدام حسين مع الإعلام بشكل عام. من كان يسمح حينها بتصويرهم من دون تحفظ هم الأطفال العراقيون المرضى في المستشفيات جراء نقص الأدوية في ظل الحصار الذي كان مفروضاً على العراق. في أحد مستشفيات بغداد دلنا طبيب على «ساهرة»، وهي طفلة عراقية لم تتجاوز الثامنة وكانت ترقد في سريرها تصارع الموت إثر إصابتها بالسرطان ولم يكن حينها العلاج متوافراً.. التقطت الكاميرا اللحظات الأخيرة من عمر هذه الطفلة الغض بمباركة من الأطباء والعاملين في المستشفى الذين تمنوا أن ننقل هذه الوقائع إلى العالم..
كانت صور أطفال العراق ومآسيهم هي الصور شبه الوحيدة التي حرص النظام العراقي على تظهيرها.. بعض العائلات كانت تشكو همساً من منع الأدوية قسراً ومن عدم تمكنها من دفن أطفالها حال وفاتهم لأنه كان يطلب منها الانتظار حتى تنظم جنازات جماعية لعدد من الأطفال ويتم تصويرهم وعرضهم على الإعلام. كان النظام العراقي يضاعف من مأساة الحصار ويستغلها لتحقيق أهدافه.
وإن بدت هذه الأمثلة مكررة وغير جديدة لكن هناك ما يستدعي التذكر والتفكير من دون الغرق في الانفعال ورد الفعل..
الصور التي سربت أخيراً لصدام وهو يرتدي ملابسه الداخلية أو وهو يغسل ثيابه تنتمي أيضاً إلى هذا النوع من الإعلام الدعائي. والجهة المسؤولة عن هذا التسريب لم تعلن عن نفسها، ولا يكفي القول أن صحيفة «الصن» البريطانية هي التي حصلت على الصور ونشرتها لنعرف من سرب هذه اللقطات ولماذا!! رغم ذلك يبدو بديهياً ان القوات الأميركية التي كانت مسؤولة عما جرى في سجن أبو غريب من انتهاكات هي أيضاً مسؤولة عن تسريب صور صدام حسين.
وبعيداً عن الأهداف الأميركية من تسريب صور صدام فاننا بالتأكيد لن نتمكن من أن نعيد إلى الطفلة ساهرة حياتها بالتهليل لصور طاغية شبه عار أو وهو يغسل ملابسه!! كما أننا لن نعيد لآلاف الضحايا الذين سقطوا ضحية نظام صدام حسين اعتبارهم حين نبتسم للمصير الذي آل إليه هذا الرجل المسؤول عن مآسٍ جمة عاناها العراقيون..
قد تكون مأساة مضاعفة أن يتمكن صدام حسين من سجنه أن يستدرجنا من دون علمه إلى أسلوبه في الدعاية والتعامل بخفة مع الحياة الانسانية مهما كانت.
لا يمكن أن نعيد الاعتبار للطفلة ساهرة وللائحة طويلة من ضحايا نظام صدام سوى بأن تكشف جميع الحقائق المتعلقة بارتكابات نظام حزب البعث ومن تعاون معه ودعمه وبمحاكمة جدية وعادلة لا يتم التغافل فيها عن أحد..
ردّ الاعتبار للضحايا أمر لا يتحقق بحفنة من الصور!
* إعلامية لبنانية تراقب وتتابع قضايا الإعلام
التعليقات