إذا وضعنا القضاء جانباً أمكن القول إن قائد lt;lt;القوات اللبنانيةgt;gt; سمير جعجع أمضى في السجن مدة تفيض عن محكوميته. إن العفو المتأخر عنه واحد من أبرز النتائج والدلائل على حجم التحولات الجارية في لبنان منذ سنة مروراً بمحطات 14 شباط و14 آذار و26 نيسان.
لقد اقتحمت التغيّرات الإقليمية والمحلية أسوار السجن لتنهي lt;lt;الحالة الشاذةgt;gt;. وكان القانون الذي أقر أمس مجرد أداة لمصالحة وضع السجين مع وضع البلد. إن لبنان الناشئ هو لبنان الذي يشارك جعجع في صياغته بعد وقت مستقطع دام أحد عشر عاماً ونيفا.
المرحلة الجديدة في حساب الطوائف متفاوتة. الزعامة السنية اليوم هي زعامة السنوات الماضية بعد الافتقاد إلى قامة رفيق الحريري، ومحاولة التعويض عنها. والزعامة الشيعية اليوم هي الزعامة الشيعية للسنوات الماضية بعد تعديلات في موازينها الداخلية. والزعامة الدرزية اليوم هي الزعامة الدرزية للعقود الماضية مع مركزية أشد وضوحاً. وهذه الزعامات نفسها، أو معظمها، هي التي أوجدت السند الداخلي للقرار المزدوج بنفي ميشال عون وسجن سمير جعجع، أي، عملياً، لتهميش
القيادات السياسية المسيحية الرئيسية من دون اهتمام كاف برعاية بدائل.

إن الخلافات بين النظام السوري والقيادتين السنية والدرزية، وما نجم عنها، قلبت الوضع. لم يحصل أي شيء نتيجة حراك داخل الطوائف. كل ما حصل هو انتقال كتل بشرية كما هي من موقع إلى موقع من دون أن يرتبط ذلك، إطلاقاً، بظهور قيادات جديدة. بقي الشيعة، بين المسلمين، خارج هذا الانقلاب ولو أنهم، كما المنقلبين، مضطرون إلى عقد تسويات تأخذ ما جرى بالاعتبار. أما على الضفة المسيحية فنشهد، منذ فترة، انتقالاً للزعامة، أو، فلنقل، استعادة للزعامة. بكلام آخر عرف بعض المسلمين انتقالاً في الخطاب والممارسة والموقع قادته زعاماتهم إياها في حين عرف المسيحيون قدراً من الثبات صاحبه تسليم الرايات لعون العائد وجعجع المحرَّر.
لقد انتهى، في هذه البيئة، دور البدل عن ضائع الذي لعبه لقاء lt;lt;قرنة شهوانgt;gt; بقيادة البطريرك الماروني. غير أن النهاية لم تكن حاسمة لأن كلاً من عون وجعجع يطل على هذه البيئة وهي في حالة حراك وتطرح على نفسها أسئلة صعبة.
لقد كان lt;lt;البدل عن ضائعgt;gt;، خلال سنوات، وحتى معركة التمديد أولاً ثم، خاصة، 14 شباط، صات الاحتجاج على التهميش المسيحي المنسوب حصراً، وزوراً، إلى سوريا. وإذا كانت lt;lt;القواتgt;gt; احتمت بهذه المظلة وكانت جزءاً منها فإن lt;lt;التيار الوطنيgt;gt; مثل، فيها، دور الجناح النقدي الراديكالي. والمفارقة أنه بقدر ما اقترب بعض المسلمين من تبني الشعارات العونية بقدر ما كان يزداد قبولاً لlt;lt;القواتgt;gt; وللعلاقة معها ولتبني مطلبها الخاص بإنهاء الوضع غير الطبيعي لقائدها.

لقد توفر الأساس السياسي الداخلي ل14 آذار من اجتماع ثلاثة شعارات: الحقيقة (لجنة التحقيق الدولي ومصير قادة الأجهزة) والانسحاب والعفو.
غير أن هذا الأساس بدا هشاً بعض الشيء عند المحطة الانتخابية وما سبقها من سجال حول القانون. لقد بدا أن هناك، في الجناح الإسلامي من المعارضة، من يملك تصوراً للعلاقات والتوازنات (بعد الانسحاب) يفترض فيه امتصاص الاندفاعة المسيحية. وانكشف، رداً على ذلك، التباين بين سلوك lt;lt;التيارgt;gt; وسلوك lt;lt;القواتgt;gt; فlt;lt;التيارgt;gt; يريد تقديم نفسه نداً يملك مشروعاً إجمالياً. وlt;lt;القواتgt;gt; تقبل بعلاقة تحالفية غير متوازنة لا تلبي غرائز قاعدتها. كان هذا نوعاً من الاستعادة المتأخرة لأجواء lt;lt;اتفاق الطائفgt;gt; مع فارق أن جعجع أوحى، من سجنه، بسلوك lt;lt;متواضعgt;gt; ومبني على نقد ذاتي ضمني لمخاطر الانفراد.

إن تموضع ما بعد الانتخاب مستمر. ثمة موقفان لكل من lt;lt;التيارgt;gt; وlt;lt;القواتgt;gt; حيال تشكيل الحكومة. ولقد أدى هذا التباين إلى ازدياد الحاجة القواتية إلى جعجع، وكذلك إلى تحوّل حريته إلى طلب ملح من جانب الحلفاء. فlt;lt;القواتgt;gt; ترغب في استعادة توازن ما مع lt;lt;التيارgt;gt;، والحلفاء يريدون قوة تؤمّن لهم التغطية التي انكشف عجز lt;lt;قرنة شهوانgt;gt; عن تأمينها. أي أنهم يريدون الإيحاء بوجود نصاب سياسي طوائفي للتركيبة lt;lt;التأسيسيةgt;gt; الجديدة. وبما أن الرئيس إميل لحود يبدو أكثر مسايرة لعون فإن الرهان هو على جعجع من أجل استدراج البطريرك، المنسحب بهدوء من الموقع القيادي، إلى موقف أكثر تعقيداً.

إن جعجع الخارج من السجن، مثل عون العائد من المنفى (مثل سعد الحريري الوارث أبيه الشهيد)، غامض بعض الشيء حيال اللبنانيين. لذا سيراقب المواطنون بشغف ما سيقوله. وسيحاولون سد فضولهم بسرعة: كيف أمضى الرجل سنوات السجن؟ ماذا قرأ؟ ماذا يعلم عما جرى؟ كيف تطوّر؟ أين استقر في مراجعة أفكاره وممارساته؟ ما هي فلسفته السياسية الجديدة؟ كيف ينظر إلى الآخرين؟ ما رأيه في علاقات لبنان الإقليمية؟ هل هو باحث عن القواسم المشترك بين لبنانيي ما بعد 14 آذار أم أنه مسلّم بتعددية حضارية تبحث عن ترجمة سياسية عبر تطوير الفدرالية اللبنانية الضمنية؟ كيف يرى الدولة ودورها ومركزيتها؟ ماذا عن العلاقة مع سوريا؟ هل يسلّم بعروبة لبنان؟ والمقاومة، ما مستقبلها في رأيه؟
نستطيع استخلاص المعالم العامة والضبابية للأجوبة من ممارسات lt;lt;القواتgt;gt; وأطروحاتها في المرحلة الأخيرة. لكنها معالم فقط وهي شديدة الاختلاط أحياناً. إن المسكوت عنه كبير ومهم. وثمة شعارات مطلبية كثيرة يفترض وضعها في سياق الاستعادة النقدية للماضي، علماً أن النقد الذاتي ليس فضيلة لبنانية كما أن ظروف العفو قد تشجع على مطالبة الآخرين بالاعتذار وعلى تقديم قراءة تحريفية للتاريخ.

لن يستطيع سمير جعجع أن يعيش lt;lt;فترة سماحgt;gt; تتجاوز حدود النقاهة والفحوصات الطبية الضرورية. ستلاقيه حدة الاستقطابات الجديدة عند باب السجن وسيكون مطالباً بموقف منها. سيكون مطالباً، في الحقيقة، بمواقف متعددة لأن خطوط الانقسامات متداخلة: إن ما يصح في خصوص التمثيل السياسي والحكومي لا يصح في خصوص مستقبل العلاقة مع سوريا، وما يصح حول المقاومة والقرار 1559 لا يصح حول الإصلاح، وما يصح حول الخصخصة والبرامج الاقتصادية لا يصح حول التربية الوطنية وقانون الانتخاب، إلخ...
عندما سيتأمّل سمير جعجع لبنان سيجده بلداً أكثر إلفة مما كان قبل 11 عاماً. لقد تراجعت فيه كثيراً الادعاءات الوطنية والقوى العابرة، وتقدم فيه كثيراً الانتظام الطوائفي الذي شكّل، في حدود ما نعرف، لبّ التفكير lt;lt;القواتيgt;gt;. يجب أن نضيف إلى ذلك أن طوائف شرعت تتخصص في ملفات lt;lt;وطنيةgt;gt; وأن المركزية القيادية داخل كل طائفة بلغت شأواً بعيداً. سيجد السنة في البيت السني والشيعة في البيت الشيعي، والدروز في البيت الدرزي... وسيجد، أيضاً، أن البيت المسيحي مسكون أو نصف مسكون. أكثر من ذلك سيجد أن الرهان معقود عليه لlt;lt;قيادةgt;gt; هذا البيت نحو تعايش مع الآخرين علماً أن هؤلاء الآخرين لم يظهروا، حتى الآن، قدرة على تقديم التنازلات الضرورية لأي تعايش.


  

يثير إطلاق جعجع مشاعر حادة عند اللبنانيين. هناك من يمتلئ حبوراً وهناك من يمتلئ قلقاً. غير أن ذلك لا يلغي أن العيش مع هذه المشاعر المتناقضة خير من العيش مع الخطأ الذي طال والذي جعل بعض المختلفين مع جعجع يعيش خجلاً يمنعه من السجال مع من يعتبره أنصاره lt;lt;أيقونة مظلومةgt;gt;.
جوزف سماحة