الخميس: 25 . 08 . 2005

حذّر عبد الله الثاني، ملك الأردن الشاب، من انعدام الثقة بين الناخبين والنواب وبين النواب والحكومة في بلاده، ونبّه الى احتمال وجود ترتيب اقليمي ما يعد على حسابها، وقال ان من الحيوي المسارعة الى تصحيح ما في وضعها من أخطاء، كي لا يكون استمرارها صعبا.

بذلك، يؤكد ما قاله الفكر السياسي العربي النقدي خلال العقود الأربعة الماضية، وهو أن السلطة العربية الراهنة لا تستند الى بنية تحتية وطيدة، وأنها تنتج نفسها من قمتها وتعيش خللا خطيرا يتطلب معالجة عاجلة، والا ترتبت عليه تشوهات يصعب التكهن بنتائجها، وان كانت دلائل كثيرة تشير الى أنها ستكون وخيمة.

في هذا السياق، أود إبداء ملاحظات تتصل بمسائل ثلاث تكمل الصورة التي قدمها الملك، هي:

ضرورة أن يسبق الحاكم الواقعي النقاد والمعارضين الى معرفة عيوب نظامه، وأن يقر بوجودها، انطلاقا من أن الواقع حمال أوجه، وأنه لم يوجد بعد وضع نهائي في تاريخ البشر، ولم يوجد، بالمقابل، فكر يستطيع التنبؤ بجميع ما قد ينجبه الواقع من تطورات، ولأن من أصول السلوك الصائب ترك أبواب الممكنات مفتوحة، في النظر والعمل، على أن تعالج المستجدات أولا بأول، بعد الاعتراف بها وردها الى أسبابها، والاقرار بأنها كانت داخلية خلال الحقبة العربية المعاصرة، التي هيمنت عليها حكومات انفردت بالرأي والقرار الى درجة أفقدتها الحق في رمي أخطائها على غيرها عامة، وعلى المعارضة الضعيفة في بلدانها خاصة، وفي استحضار روح الامبريالية والصهيونية الشريرة لتبرير ما تشهده بلدانها من أزمات، تبدأ بكل شيء وتصل الى ما لفت الملك الأنظار اليه من عيوب في بنى وهياكل الدولة... الخ.

إن الواقعية، التي أخذت بعض تباشيرها تبرز لدى جهات عربية لطالما اعتبرت تقليدية ومتخلفة عن ركب التاريخ، وعاجزة عن مواكبة جديده، تحتم الاعتراف بحقائق أخرى تكتمل بها الصورة الصحيحة، التي قدمها ملك الأردن حول الوضع في بلاده، هي التالية:

- وجود هوة بين مكونات المجتمعات العربية جميعها، تشحنها بتوترات كثيرة يمكن أن تنفجر أو تفجّر في أي وقت.

- وجود هوة بين المجتمعات العربية وممثليها السياسيين، الرسميين منهم والمعارضين، تجسدها أزمة تطال شرعية ووظيفة الحكومات، تتمثل في انعدام لغة وامكانية الحوار بين من هم فوق ومن هم تحت.

- وجود هوة بين الدول العربية، وخاصة المتجاورة منها، تشحن العلاقات العربية العربية بمشكلات لا قدرة لدى الحكومات على حلها أو تجميدها، مع أنها تمكن الخارج من لعب دور مهم في لحظة السقوط العربي الحالية، الخطيرة بصورة خاصة.

يشجعني على الاعتقاد بأن اعترافا كهذا يجب أن يصدر عن حاكم عربي عاقل واقعتان حدثتا خلال السنوات الخمس الماضية. فقد أصدر قرابة مائة مثقف سعودي عام 2001 بيانا يطالب بالاصلاح، فما كان من الملك عبد الله، ولي عهد المملكة آنذاك، الا أن دعاهم الى لقاء نقله التلفاز، استمع خلاله الى مطالبهم وآرائهم، ثم أثنى على نواياهم الصادقة ووطنيتهم الأصيلة، ووعدهم بتحقيق بعض ما تحدثوا عنه، واعتذر عن عدم تحقيق بعضه الآخر.

بالمقابل، أصدر أكثر من ألف مثقف سوري عام 2000 بيانا يطالب باصلاح يتم بقيادة أرباب النظام القائم وفي اطار حوار ومصالحة وطنية، فما كان من هؤلاء الا أن تم العام 2001 اعتقال عشرة منهم حكمت محكمة استثنائية، غير قانونية، على أحدهم، دكتور وعالم الاقتصاد عارف دليلة، بالسجن لمدة عشرة أعوام، مع أن التهم الموجهة اليه هي عين التهم الموجهة الى غيره، ممن حكموا بعامين ونصف الى خمسة أعوام. في هذه الأثناء لم يحاور أي مسؤول سوري المثقفين، ولم يصدر عن أية جهة في الدولة أي رد فعل ايجابي تجاههم، مع أن القلق على مصير وطنهم جعلهم يقبلون مصالحة نظام كانوا يعارضونه طيلة نيف وثلاثين عاما، ودفعوا بشجاعة ودون تردد ثمنا فادحا لموقفهم منه. واليوم، تشن السلطة حملات متعاقبة على مثقفي سوريا، وتمنعهم من الالتقاء والحوار، وتمارس ضغوطا متنوعة لمنعهم من قول آرائهم في الصحافة الخارجية، مع أن اعلامها الرسمي مقفل في وجوههم، بل انها حرضت مؤخراً كتبتها ضدهم، فأخذوا يتهمونهم بالعمالة ل “اسرائيل” وأمريكا، متجاهلين اعلاناتهم الدائمة بتأييد أي برنامج اصلاحي رسمي مهما كان محدودا وجزئيا، واستعدادهم لاعتباره خطوة على طريق برنامج التغيير الوطني الشامل، الذي كانوا أول من اقترحه وأفرد للسلطة القائمة دورا قياديا فيه، واعلاناتهم المتكررة بأنهم يقفون مع وطنهم ضد أمريكا، في جميع الظروف والأحوال.

لم يعد وصف الداء وتشخيص المرض كافيا. من الضروري، من الآن فصاعدا، الانتقال الى وصف الدواء، أي الى القيام بالاصلاح، بعد أن وصل الطرفان السياسيان الرئيسان في الواقع العربي الراهن، الحكومة والمعارضة، الى نتيجة واحدة هي أن الدول العربية تعاني حقا من عيوب خطيرة تهدد وجودها وتحول دون خروجها من حال لا يفيد أحدا غير أعدائها الكثيرين، وخاصة منهم أولئك الذين كان بعض العرب يعتبرونهم الى البارحة أصدقاء مخلصين.

هذه لحظة حقيقة، يتوقف عليها مستقبل ومصير الأمة والفرد، يجب أن تؤسس فيها فسحة للأمل عبر الاقرار بالحقائق كما عبرت عنها كلمات ملك الأردن الشاب، ومن المهم أن يجسدها الاعتراف بضرورة بداية جديدة، نصد بواسطتها التحدي الداخلي والخارجي الذي يواجهنا مع استمرار مأساة العراق. فهل نشهد حقا مواقف اصلاحية يترجمها وعي رسمي جديد، يقبل ويقيم بدائل تبدو علاماتها جلية في مطالب المواطن العربي، التي تنشد تعاونا بين دولنا ومجتمعاتنا في سبيل وضع يعزز الأولى وينقذ الثانية؟

هل هذا كثير على وطن عربي يمر اليوم بتجارب ومحن يصعب تعايشه معها، مع أن لديه من الطاقات والمؤهلات ما يجعله قادرا على صدها وردها، فضلا عن مغادرة حاله الراهنة، في وقت قصير؟