الثلاثاء:17. 01. 2006


د. حسن مدن

لم يغادر طيف سلفادور الليندي رئيس حكومة الوحدة الشعبية في تشيلي البلاد أبداً، منذ أن أطاح الجنرال الفاشي بينوشيه بحكومته في انقلاب دموي عام ،1973 أحال بعده البلاد كلها الى معسكر للاعتقال والتعذيب وتغييب نشطاء الحركتين الديمقراطية والعمالية، وحكم البلاد بالحديد والنار طوال سنوات صعبة. كان الليندي قد أتى الى السلطة بأصوات الناخبين، ولم تحمله الى قصر الرئاسة الدبابات، ودافع عن الشرعية حتى الرمق الأخير. لذا ظل طيفه حاضراً في أذهان أجيال من التشيليين الذين انتصروا له أخيراً في الانتخابات الرئاسية التي جرت في البلاد، ودفعت أمس بالمرشحة الاشتراكية ميشيل باشليه، لتكون بذلك أول امرأة تصبح رئيسة للجمهورية في أمريكا اللاتينية، حيث هزمت المرشح اليميني الملياردير سياستيان بيينيرا الذي اعترف بهزيمته. الرئيسة الجديدة هي ابنة لجنرال كان صديقاً للرئيس الأسبق الدكتور سلفادور الليندي، وتحملت، مثل والدها، عسف الطغمة العسكرية الديكتاتورية بقيادة بينوشيه بعد الانقلاب الفاشي، فدخلت السجن وذاقت مرارة المنفى، قبل أن تعود للبلاد مع موجة الانفراج السياسي التي اجتاحت أمريكا اللاتينية والوسطى، لتتدرج في المناصب الإدارية والوزارية قبل أن تترشح لرئاسة الجمهورية ممثلة للقوى الديمقراطية واليسارية في البلاد، وتصل الى سدة الرئاسة بأغلبية شعبية كبيرة.

بفوز ميشيل باشليه بالرئاسة في تشيلي تستمر سبحة الصعود المدوي للقوى المناهضة لليمين وللسياسة الأمريكية في المنطقة، بعد فنزويلا وبوليفيا، هذا فضلاً عن خندق كوبا فيدل كاسترو الصامد بوجه الحصار الاقتصادي الجائر المفروض على الجزيرة منذ عقود من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.

أهمية هذا الصعود تكمن بصورة أساسية في كونه يأتي محمولاً على أصوات الناخبين، ووفق قواعد الممارسة الديمقراطية وبالإرادة الحرة للناخبين، الذين جربوا سياسات الليبرالية الجديدة المدعومة من الغرب واكتووا بنيرانها، ويتطلعون الى البديل الديمقراطي الذي تمثله التيارات الشعبية الصاعدة اليوم في بلدان القارة، وهذا يسبب حرجاً كبيراً لواشنطن، التي تُنصب نفسها اليوم، من وجهة النظر الدعائية، داعية للديمقراطية، فهي لا تستطيع التذرع بأن الرؤساء الجدد في أمريكا اللاتينية لا يمثلون الشعب لأنهم أتوا عبر ثورات مسلحة أو انقلابات عسكرية، كما كان عليه الحال في الماضي بالنسبة لبعض الأنظمة المعادية للغرب في البلدان النامية. فالشعب، هذه المرة، وعبر صناديق الاقتراع هو من اختار هؤلاء الرؤساء وألحق الهزيمة بالمرشحين الموالين للغرب، ثقة منه في الخطاب الذي يقدمه من نالوا ثقة الناس. وهناك مصدر آخر للحرج الأمريكي، فالاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية في أوروبا قد انهارا، ولم يعد ممكناً التذرع بأن الموجة اليسارية الجديدة في أمريكا اللاتينية مدعومة من أحد خارج القارة، كما كان الغرب يردد في ما مضى. إن هذا الصعود يعيد الاعتبار لفكرة العدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية وللبدائل الديمقراطية، بعد أن سعى الغرب وعلى مدار عقدين من الزمن منذ نهاية الحرب الباردة لإيهام شعوب العالم بالنصر المبين لليبرالية الجديدة وبنهاية التاريخ بالظفر النهائي للرأسمالية، كأن النضال من أجل الحقوق والكرامة والمساواة رهن بوجود الاتحاد السوفييتي، أو كأنه ابتدأ بقيامه، فيما تلك القيم التي ينتصر دعاتها اليوم في أمريكا اللاتينية مستقرة في الوجدان العميق ليس لشعوب القارة وحدها وإنما في ضمير البشرية كلها وعبر التاريخ الإنساني كله.