الثلاثاء:24. 01. 2006

د. محمد عابد الجابري

تذكر مصادرنا أن أربعة أشخاص اجتمعوا بمكة بمناسبة عيد لقريش، كانت تحتفل فيه عند أحد أصنامها، فتصادقوا على أن ينبذوا عبادة الأصنام ويطلبوا دين جدهم إبراهيمmiddot; وهؤلاء الأربعة هم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيلmiddot; وتقول الرواية إنهم تفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيمmiddot; أما زيد بن عمرو بن نفيل فقد تحدثنا عنه في المقال السابقmiddot; وأما عبيد الله بن جحش فقد أسلم عند قيام الدعوة المحمدية ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، ''فلما قدمها تنصَّر وفارق الإسلام حتى هلك هنالك نصرانياً''middot; وأما عثمان بن الحويرث فقد ذهب إلى قيصر ملك الروم فتنصَّر و''حسنت منزلته عنده''middot; وأما ورقة بن نوفل -عم خديجة زوج النبي عليه الصلاة والسلام - فتقول الروايات إنه ''استحكم في النصرانية، واتبع الكتب من أهلها، حتى علم علماً من أهل الكتاب''middot; وأنه ''كان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب''middot; و''الإنجيل بالعبرانية'' هو الإنجيل الذي كان المرجع الوحيد لـ''الذين قالوا إنا نصارى'' (ومنهم أريوس وأتباعه كما ذكرنا في مقال سابق)middot;
يقول رجال الكنيسة الرسمية إن هذا ''الإنجيل بالعبرانية'' المنسوب إلى متى، فيه ''تحريف كبير''middot; والمسألة المطروحة هنا هي: أين يقع التحريف فعلا هل في الأناجيل الأربعة المكتوبة باليونانية والمبنية على عقيدة التثليث التي لم تكن معروفة في المسيحية الأولى، أم أن التحريف اختص به الإنجيل المكتوب بالعبرانية، إنجيل ''الذين قالوا إنا نصارى''؟ ليس من اختصاصنا الإجابة عن هذا السؤالmiddot; غير أنه يمكن القول إنه بناء على ما ورد في القرآن فإن التحريف طال الأناجيل التي تقول إن الله ثالث ثلاثةmiddot;
تنصر ورقة بن نوفل إذن وصار عالما من علماء النصرانية ''العبرانية'' أي التي بقيت وفية لتعاليم التوراة بما في ذلك الختان والامتناع ''عَنِ الأَكْلِ مِنَ الذَّبَائِحِ النَّجِسَةِ الْمُقَرَّبَةِ لِلأَصْنَامِ، وَعَنِ ارْتِكَابِ الزِّنَى، وَعَنْ تَنَاوُلِ لُحُومِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَخْنُوقَةِ، وَعَنِ الدَّمِ'' (الإنجيل: أعمال الرسل)، ومعارضة التثليث بطبيعة الحالmiddot; وعندما جاء الوحي إلى محمد بن عبدالله في غار حراء ذهبت به زوجته خديجة إلى عمها ورقة تطلب منه تفسير ما حدث لزوجها بغار حراءmiddot; ولما استمع ورقة إلى ما حكاه الرسول له قال: ''هذا الناموس الذي نزَّل الله على موسى! يا ليتني فيها جذعا! ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك''! وتضيف الرواية أن النبي سأله: ''أومخرجي هم''؟! أجاب ورقة: ''نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِيَّ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا''middot; وقد توفي ورقة عند ظهور الإسلامmiddot; وقيل سئل عنه النبي عليه السلام فقال: ''قد رأيته (في المنام) فرأيت عليه ثياب بياض، أبصرته في بُطنان الجنة (وسطها) وعليه السندس''middot;
ومن الرهبان الذين تذكر كتب السيرة أنهم بشروا بنبوة محمد، وهو ما يزال بين التاسعة والثانية عشرة من عمره، الراهب بحيراmiddot; كان هذا الراهب في بُصرى من أرض الشام يعيش في صومعة هناكmiddot; فلما سافر محمد بن عبدالله، مع عمه أبي طالب في ركب من التجار إلى الشام نزل الركب في بُصرى، فاستضافهم الراهب بحيراmiddot; ولما تعرف الراهب على محمد أخذ يلقي عليه أسئلة حول حياته الشخصية والشاب محمد يجيبmiddot; ثم التفت الراهب إلى أبي طالب فقال له: ''ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفتُ ليَبْغُنَّه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم''middot; وهناك حول هذا الموضوع روايات أخرى من هذا القبيل عدلنا عن ذكرها تجنبا للتكرارmiddot;
ومـن الحنفـاء المشهورين أمية بن أبي الصلـت الثقفي (من الطائف)، وكان تاجرا يذهـب إلى الشام ويتصل بـ''أهل الكنائس من اليهود والنصـارى وقرأ الكتب، وكان قد علم أن نبيا يبعث من العرب، وكان يقول أشعارا على آراء أهل الديانة يصف فيها السماوات والأرض والقمر والملائكة، وذكر الأنبياء والبعث والنشور والجنة والنار ويعظم الله عز وجـل ويوحِّدهmiddot;middot;middot; ولما بلغه ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم اغتاظ لذلك وتأسف، ''وجاء المدينة ليسلِم فندم ورجع إلى الطائف'' ومات فيهاmiddot; وهناك روايات متعددة بشأنه، منها واحدة تقول: إنه هو الذي أراده تعالى بقوله : ''وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ'' (الأعراف 175)middot;
ومن ''الحنفاء'' الذين تذكرهم المصادر: خالد بن سنان العبسيmiddot; وقد اختلف المفسرون وكتاب السيرة في شأنه اختلافا كبيراmiddot; فيذكرون أنه كان له فعل خارق للعادة وهو إطفاء نار عظيمة بما يشبه المعجزة، وجاء في رواية أن ابنته جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ''فبسط لها ثوبه وقال: بنت نبي ضيَّعه قومه''، وفي أخرى أنها سمعت النبي يقرأ: ''قل هو الله أحد الله الصمد''، فقالت : ''كان أبي يقول هذا''، بمعنى أنه كان من الموحِّدينmiddot;
وظهر في الناحية الشرقية من الجزيرة رهبان من أمثال رئاب بن البراء الشتي، وريان بن زيد بن عمرو، وقس بن ساعدة الإياديmiddot; وتحتفظ لنا المصادر بحكايات وأخبار ونصوص عن هذا الأخيرmiddot; من ذلك أن رجالا من بني عبد قيس قدموا على النبي بالمدينة ''عام الوفود'' (للتهنئة بفتح مكة) فسألهم النبي: ''أفيكم من يعرف قس بن ساعدة الإيادي''؟ فقال أحدهم: ''كلنا نعرفه''middot; وأخذ في سرد بعض أقواله وخطبهmiddot; من ذلك خطبته الشهيرة التي قال فيها: ''فيا معشر إياد، أين ثمود وعاد، وأين الآباء والأجداد، وأين العليل والعواد؟ كل له معادmiddot; يقسم قس برب العباد، وساطح المهاد، لتحشرن على الانفراد، في يوم التمادmiddot; إذا نفخ في الصور، ونقر في الناقور، وأشرقت الأرض، ووعظ الواعظ، فانتبذ القانط، وأبصر اللاحظ، فويل لمن صد عن الحق الأشهر، والنور الأزهر، والعرض الأكبر، في يوم الفصل، وميزان العدل''middot;middot; إلخmiddot; وأضاف الراوي: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ''مهما نسيت فلن أنساه بسوق عكاظ على جمل أحمر يخطب الناس: ''اجتمعوا فاسمعوا، وإذا سمعتم فعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا وقولوا، وإذا قلتم فاصدقواmiddot; من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت''middot;middot; الخmiddot; ويضيف الراوي أن النبي قال: ''رحم الله قساً، سيبعث يوم القيامة أمة وحده''middot;
وبعد فما هي بالضبط عقيدة هؤلاء الحنفاء؟ وما هو أصلها؟
لقد وصفها الرواة بأنها ''دين إبراهيم''middot; ولكننا لا نستطيع الجزم فيما إذا كانت هذه العقيدة قد نسبت إلى أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام قبل أن يبين القرآن ذلك ويؤكده، أم أن تلك النسبة إنما استقاها الرواة والمؤرخون من القرآن!
إننا لا نستطيع الإدلاء بجواب قطعيmiddot; ومع ذلك فالشائع في مصادرنا أن لفظ ''الحنيفية'' مشتق من ''حنف'' بمعنى مالmiddot; ''ومعنى الحنيفية فـي اللغة: الـمَيْلُ''، وقد نسب إبراهيم إلى الحنيفية لأنه ''حَنَفَ إِلـى دينِ اللَّه''middot; وقيل ''الحنيف في الجاهلية من كان يَحُج البيت ويغتسل من الجنابة ويخْتَتنُ، فلما جاء الإِسلام كان الحنيفُ هو: ''المُسْلِمَ''middot;
ويرى بعض الباحثين أن لفظ ''حنف'' عرفتها اللغات التي كانت سائدة في المنطقة العربية قبل الإسلامmiddot;
وبما أن المصادر العربية بما فيها المعاجم تربط بين التنحف والتحنث وتجعلهما بمعنى واحد فقد قال بعض المستشرقين إن اللفظ من أصل عبراني، من ''تحنيوث''، فعرب إلى ''التحنث''middot; ومهما يكن فما كان يميز من وصفوا بـ''الحنفاء'' في الروايات العربية قبل ظهور الإسلام، هو الاعتزال للعبادة مع الميل إلى الزهد والتوحيد، وانتقاد عبادة الأصنام، الشيء الذي كان يثير عليهم غضب قريش وسكان مكة خاصة، حيث كان العرب يحجون إلى أصنامهم مع ما كان لذلك من رواج تجاري تستفيد منه قريشmiddot; ولهذا كانت قريش تضطهد هؤلاء الحنفاء فيضطرون إلى الانتقال من مكان إلى آخر، ومن قبيلة إلى أخرى، يدعون إلى عقيدتهمmiddot; كان منهم من كان نصرانيا أو تنصَّر وبقي على نصرانيته، وكان منهم من تركها واعتنق الإسلام عند ظهورهmiddot;
وإذا كان لابد من تصنيف هؤلاء الحنفاء فجميع القرائن تدل على أن النصارى منهم -على الأقل- كانوا امتدادا لحركة أريوس وأنهم يدخلون جميعا في زمرة ''الذين قالوا إنا نصارى'' بالمعنى الذي استعمل فيه القرآن هذه العبارةmiddot;

وفي المقال القادم مزيد بيانmiddot;