سليم نصّار


دخل الرئيس الاميركي جون كينيدي الى غرفة الاستقبال في البيت الابيض حيث كان ينتظره البطريرك مار بولس بطرس المعوشي مع سفير لبنان ابرهيم الأحدب والمترجم اللبناني الاصل كميل نوفل.
وقبل أن يبدأ الرئيس حديثه مع البطريرك، قدم له المترجم نوفل ورقة صغيرة كتب عليها عبارة مقتضبة مفادها ان غبطته يطلب ان تخصه بعشر دقائق على حدة. وفهم كينيدي أن المعوشي يريد الانفراد به لأمر يفضل ألا يكشف عنه أمام ممثل الرئيس فؤاد شهاب.
كان الرئيس الاميركي يحمل ملفاً صغيراً اختار منه صفحة رُسم عليها خط بياني يشير الى مراحل الازمات التي تعرض لها لبنان منذ الاستقلال عام 1943. وركّز في مستهل حديثه على عام 1958 ملمحاً الى الثورة التي اندلعت في حينه واستدعت تدخل الرئيس ايزنهاور الذي ادعى أنه ارسل المارينز لمنع سقوط لبنان في أحضان الناصريين. علماً بأن تلك العملية نُفذت بهدف تخويف قادة الثورة العراقية وحماية المصالح النفطية.

وبعد استعراض أحداث تلك المرحلة، وجه الرئيس كلامه الى البطريرك متسائلاً: الى أي الاسباب يمكن أن نعزو بطء عملية الاستقرار السياسي: أهو خلل في الدستور... أم حصيلة تراكمات الاخطاء الطائفية والاجتماعية التي تمنع التطور الديموقراطي السليم؟
أجابه البطريرك بأن طموح بعض رؤساء الموارنة الى تجديد الولاية، خصوصاً في 1952 (بشارة الخوري) وسنة اندلاع ثورة 1958 (كميل شمعون) قاد الى تعثر البلاد وإرباك حركة التطور الاجتماعي والسياسي.

ولما انتهى موعد الزيارة، وجد الرئيس كينيدي الفرصة المناسبة للخروج مع البطريرك الى الحديقة، بحجة أنه يريد انتقاء المكان الذي سيزرع فيه شجيرة الأرز. أي الشجيرة التي حملها اليه غبطته كهدية تذكارية من غابة الأرز المقدس. واغتنم المعوشي تلك الخلوة لينبه كينيدي الى خطورة دعم حملة فؤاد شهاب للتجديد، لأن البلاد، في رأيه، ستتعرض لانقسام حاد.
طبعاً، لم يعش الرئيس كينيدي ليشهد الاحداث الدرامية المتواصلة التي حاول من بعده نيكسون وريغان معالجتها خلال الستينات والسبعينات. وعندما أمر رونالد ريغان بسحب قواته من لبنان كدليل على فشل تدخله، كتب مبعوثه فيليب حبيب يقول انه نجح في مفاوضات فيتنام، ولكن مشكلة وطنه الاصلي حيرته ونسفت وساطته.

السؤال الذي طرحه كينيدي على المعوشي ينسحب ايضاً على ظروف قديمة يعود تاريخها الى العهد العثماني، وما أعقبه من عهود الاضطرابات والفتن. ويجمع المؤرخون على القول ان الانكليز تعمدوا إثارة أحداث 1840، وكان ذلك عقب انتصار ابرهيم باشا على العثمانيين في العراق، الامر الذي أدى الى إنزال قوات عثمانية - انكليزية مشتركة في خليج جونيه. وقامت تلك القوات بتوزيع المال والسلاح على العملاء من أجل إذكاء نار الفتنة ضد بشير الثاني. ونتج عن هذه الاضطرابات تقسيم الجبل قائمقاميتين منفصلتين الاولى مسيحية شمال طريق بيروت - دمشق، والثانية درزية الى جنوب هذه الطريق.

وبسبب تداخل السكان، زاد التقسيم مشكلة التعايش تعقيداً. وهكذا أدى الحل الاول الخاطئ الى انفجار حرب اهلية عام 1860. وقد هوجمت بلدة بيت مري المختلطة في المتن، ثم امتد الاقتتال بسبب تدخل الاتراك، الى حاصبيا وراشيا ودير القمر وزحلة. وعندما عمت الفوضى القائمقامية المسيحية، قام القناصل الاجانب في بيروت بتوزيع المال والسلاح على الفريقين بحيث تحول النزاع السياسي حرباً دينية مفتوحة. وكالعادة، انتقلت النقمة الى دمشق حيث هجمت الجموع الهائجة على الحي المسيحي، في وقت كان الوالي التركي أحمد باشا يرسل جنوده للمشاركة في النهب والقتل. وبعد مرور ثلاثة ايام نجح الامير عبد القادر الجزائري - الذي لجأ الى سوريا عقب احتلال فرنسا الجزائر - بانقاذ أكثر من ألف وخمسمئة نسمة.

وبما ان اضرام الفتنة كان في مصلحة الدول الكبرى وتدخلها السافر، فقد سارعت فرنسا الى ارسال فيلق نزل في مرفأ بيروت بحجة المساعدة على ضبط الأمن. عندئذ تعاون الباب العالي لتشكيل لجنة دولية ضمت ممثلي الدول الاوروبية الكبرى الخمس: فرنسا وانكلترا وروسيا والنمسا وبروسيا. وتوصلت اللجنة عقب اجتماعها في بيروت، ثم في القسطنطينية، الى اتفاق (ربيع 1861) يقضي بإنشاء نظام اساسي للبنان. وبموجب النظام الجديد، فقد لبنان نصف أراضيه، أي وادي التيم والبقاع واقاليم صور وصيدا ولبنان الجنوبي وطرابلس وعكار وبيروت وهذه كلها ضمت الى الولايات العثمانية المجاورة.

مع اندلاع الحرب العالمية الاولى، تعرض الشعب اللبناني لمجاعة طويلة قضت على ربع السكان تقريباً بسبب الحصار البحري الذي ضربه الفرنسيون والانكليز حول الشاطئ. وبسبب تمرد عدد من الزعماء انشأ الاتراك محاكم عسكرية حكمت بشنق غالبيتهم ونفي مجموعات أخرى. وبعد انتهاء الوصاية العثمانية جاءت وصاية فرنسا عام 1920 مع إعلان دولة لبنان الكبير. وقد شهدت الجمهورية الجديدة سلسلة اضطرابات حتى بعد تخلصها من الانتداب الفرنسي ودخولها عصر الاستقلال والسيادة.

يعزو بعض المحللين اسباب الانتكاسات السياسية المتلاحقة في لبنان، الى أهمية موقعه الجغرافي، تماماً مثل يوغوسلافيا وقبرص وبولندا. وهذا ما أكده لي مرة الرئيس القبرصي المطران مكاريوس عندما سألته عن اسباب الانتكاسات الوطنية التي تعرضت لها الجزيرة قبل الاستقلال وبعده. قال إن الدول الكبرى المتنافسة على تثبيت أقدامها في الشرق الاوسط تتعمد الدخول الى المنطقة من بوابة قبرص ولبنان. ووصف انفجار أزمة 1974 بأنه نتيجة هجمة اميركية لاستعمال شواطئ الجزيرة قواعد للاسطول السادس، في حين ردت موسكو على هذا الضغط بارسال كميات ضخمة من الأعتدة والصواريخ. وانتهت حصيلة الخلاف الخارجي بخلاف داخلي تدخلت فيه انقرة لحسم الموقف لمصلحة الجالية التركية. وكان التقسيم ثمرة تلك المغامرة.

هل بالمستطاع الاجابة عن سؤال الرئيس كينيدي بأن موقع لبنان الجغرافي هو السبب الاساسي لكل المشاكل التي حلت به... وان الشعب المغلوب على أمره لا يملك القدرة على تغيير الواقع المرير؟!
اثناء الحرب اللبنانية الاخيرة التي استمرت أحداثها الدامية طوال خمس عشرة سنة، نُشرت سلسلة دراسات عن طبائع الشعب الذي يعيش بالتناوب بين ظاهرتي العنف والمسالمة. أي بين إسبارطة وأثينا. وذكرت أحدى الدراسات أن الشعب السويسري الجبلي المقاتل كان يرتزق من مهنة القتال قبل اعلان حياد بلده الصغير.

وحدث خلال الثورة الفرنسية أن انقسم quot;الحرس السويسريquot; بين مقاتل مع الثوار وآخر مدافع عن الملك. والطريف أن كل المحاولات السابقة لم تنجح في نزع هذه النزعة من نفوس السويسريين الا بعدما انصبت نشاطاتهم على الافادة من مهن حضارية كالسياحة الشتوية وصناعة الساعات والشكولاته. وكان من الطبيعي أن تجعل نعمة الحياد من هذا البلد الفيديرالي التكوين مخزناً أميناً لثروات العالم.

دراسة أخرى صدرت خلال الحرب ذكرت ان اللبنانيين محكومون بالبنية الوراثية التي تجعل منهم أفراداً مشاركين في تركيب وراثي معين. وهذا ما أظهرته فحوصات الحمض النووي التي أجراها الخبراء على مئتي مواطن من العائلات القديمة في صيدا وصور. وقد وزعتها على المكتبات الشهر الماضي قناة quot;ناشيونال جيوغرافيكquot; على اسطوانة quot;دي في ديquot; بعد بثها مرات عدة. وتشير فحوصات الحمض النووي الى أن التركيبات الوراثية لبنية عدد من أهل صيدا وصور، لا تزال تحمل بذور الاصول الفينيقية. ولكن الاسطوانة التي حصلت عليها، لا تذكر ما اشارت اليه الدراسة من حب الفينيقيين لهدر الدماء. ويقول المؤرخ الالماني البرت فوشر إن الفينيقيين نقلوا عن أهل قرطاجة طقوسهم الدينية وحب التضحية بالآدميين، بهدف حجب غضب الطبيعة أو درء مخاطر الاعداء. ومثل هذه الشعائر الافريقية لم تكن مألوفة بين سكان منطقة الشرق الاوسط حيث كانت التضحية تتم بنحر الخرفان حسبما جاء في التوراة عن ابرهيم. ويفسر غيرهارد هيرم، مؤلف كتاب quot;الفينيقيونquot;، هذه الظاهرة بأنها نتيجة مأساة عميقة تعبر عن يأس وتشكيك دائمين بالخوف من المجهول. ومثل هذه الحال المتأرجحة بين الشك واليقين... بين الخوف والاندفاع... بين الاستقرار والانتحار، هي الحال التي تهيمن على كل اللبنانيين في هذا الوقت العصيب.

من هذه الحقائق الوراثية الطاغية التي تحدد طبائع الشعب اللبناني، ننتقل الى القرار الذي اتخذته المعارضة بضرورة الاحتكام الى الشارع. والدعوة في ظاهرها تتمحور حول زيادة الضغط لاسقاط حكومة فؤاد السنيورة لكونها لا تمثل كل شرائح الشعب اللبناني، وإنما هي في باطنها تعبر عن رفضها نتائج محادثات عمان، ومعارضتها موقف جورج بوش الذي يرفض محاورة طهران، ويتنصل من مسؤولية الاعتراف بصواب الانفتاح الذي قامت به دمشق مع بغداد.

والهدف من توقيت اعلان التظاهرة يوم وصول بوش الى عمان، هو الابلاغ بأن النموذج الثاني للديموقراطية في المنطقة قد تنتهي به الحال الى ما انتهى اليه العراق. بعد عبور quot;الروبيكونquot; والانتقال الى ضفة المواجهة، هل يستطيع السيد حسن نصرالله ضبط ايقاع المتظاهرين والمتسللين بحيث لا يحيد عن الغايات المعلنة؟!

السيناريو المطروح أمام المراقبين قد يكون تكراراً لما حصل في آخر عهد الرئيس أمين الجميل: أي وجود حكومتين تتنافسان على الشرعية. ومن الطبيعي أن ينقسم المواطنون حولهما، سياسياً ومذهبياً.
أما السيناريو الآخر، فيتطلع الى دور قائد الجيش العماد ميشال سليمان، وما اذا كان الصدام المسلح بين الجبهتين سيفرض عليه احياء دور فؤاد شهاب في أزمات مشابهة. ولكن دون هذا الخيار، مخاوف حصول انقسامات داخل فرق الجيش النظامي، الامر الذي يعطي مجلس الامن وقوات quot;اليونيفيلquot; دوراً آخر، مثلما حدث في quot;كوسوفوquot;. وهذا معناه وضع لبنان تحت الوصاية الدولية الى أن يبلغ سن الرشد!