حسن نافعة

يتسم التقرير الذي أعدته laquo;مجموعة دراسة العراقraquo; برئاسة جيمس بيكر ولي هاملتون - منظوراً إليه بعيون أميركية - بالجدية والاستقامة والوطنية والبعد عن المناورات السياسية، ويعكس فهما واعيا لطبيعة المهمة الملقاة على عاتقها. وتتضح جدية التقرير من تشكيل المجموعة، والخبرات التي تمت الاستعانة بها، والمنهج المستخدم في دراسة الحالة وفي التقرير المعد عن هذه الدراسة. فمن حيث التشكيل، ضمت المجموعة عشر شخصيات سياسية مرموقة، نصفها من الجمهوريين والنصف الآخر من الديموقراطيين، تتناسب سماتها وخلفياتها وخبراتها المهنية المكتسبة مع طبيعة المهمة الموكلة إليها، وهي مهمة لا يختلف أحد على أنها كانت حساسة ومعقدة في آن. ومن حيث الخبرة الأكاديمية أو المعرفية، استعانت اللجنة بأربع فرق بحثية في مجالات: الاقتصاد والتعمير، الشؤون العسكرية والأمن، التنمية السياسية، البيئة الاستراتيجية، ضمت كل منها 12 باحثاً وخبيراً مرموقاً، بالإضافة إلى لجنة عسكرية استشارية عليا ضمت خمسة خبراء من كبار قدامى القادة العسكريين.

أما من حيث المنهج المستخدم فيلاحظ أنه اختير ليتناسب مع طبيعة المهام المطلوب إنجازها والتي حددتها المجموعة على النحو التالي: 1- تشخيص الوضع الراهن في العراق بأبعاده المختلفة. 2- دراسة النتائج المحتملة التي قد تترتب على استمرار السياسات الراهنة من دون تعديل. 3- تقديم المقترحات التي تراها المجموعة كفيلة بالخروج من المأزق الراهن. وتأسيساً على هذا الوضوح في الرؤية سعت المجموعة لمقابلة كل من له علاقة أو معرفة مباشرة أو غير مباشرة بما جرى ويجري في العراق من دون أي حساسيات أو عقد. فعلى الصعيد الأميركي تم عقد لقاءات مع عدد كبير من المسؤولين الحاليين، شملت الرئيس بوش ونائبه ووزير دفاعه ووزيرة خارجيته وغيرهم كثيرون، وعدد كبير من المسؤولين السابقين شمل الرئيسين كلينتون وكارتر وهنري كيسنجر وغيرهم كثيرون، ومع أعضاء سابقين وحاليين في مجلسي النواب والشيوخ وموظفين وخبراء كبار في هيئات ومؤسسات سياسية وفنية ذات صلة. وعلى الصعيد العراقي تم عقد لقاءات مع رؤساء الدولة والحكومة والبرلمان والعديد من الأحزاب والشخصيات الدينية، بمن فيهم ممثل عن مقتدى الصدر. كما نظمت المجموعة لقاءات مع العديد من الوزراء والسفراء أو رؤساء البعثات الدسبلوماسية لدول الجوار العراقي في واشنطن ونيويورك، شملت رسميين سوريين وإيرانيين، ومسؤولين كباراً من الدول الكبرى والأمم المتحدة شملت كوفي أنان نفسه.

ويلاحظ، على صعيد آخر، أن مضمون التقرير واللغة التي كتب بها عكسا إحساسا كبيرا من جانب المجموعة بعمق الورطة التي وقعت فيها الولايات المتحدة، أو بالأحرى أوقعتها فيها الإدارة الحالية. ومع ذلك، ونظراً لإدراكها العميق بأنها أقرب ما تكون إلى آلية للبحث عن طريق لإخراج الوطن من وحل انغرس فيه عميقا حتى طال الجميع، وليست آلية للتحقيق أو حتى لتقصي الحقائق بالمعنى القانوني أو السياسي الذي يركز على تحديد المسؤوليات وتوجيه الاتهامات، عملت المجموعة على تجنب التناحر وممارسة أساليب الابتزاز السياسي وركزت جهدها كله على ما يفيد فقط في تشخيص الواقع والتعرف على سبل تجاوزه. ولأن تقريرها خلا من أي إشارة إلى آراء أو قضايا خلافية، حتى بين أعضاء اللجنة وفريق الخبراء، كما خلا من أي إشارة إلى مواقف أو وجهات نظر تتبناها أكثرية وأخرى تتبناها أقلية، فقد جاء معبرا عن القواسم المشتركة بين الحزبين الكبيرين وبالتالي عن نبض الوطن والمجتمع الأميركي في لحظة أزمة كاشفة. وهنا تتجلى أهمية التقرير الذي صدر عن مجموعة دراسة العراق. فعندما يؤكد تقرير كتب بروح كهذه أن الوضع في العراق سيئ جدا، وأنه مرشح للازدياد سوءاً إذا استمرت السياسات الحالية على ما هي عليه، وأن الخروج من المأزق يتطلب حتما تغييرا جذريا في السياسات، فمن المؤكد أنه سيصعب على الإدارة الحالية المكابرة بتحدي هذه الاستنتاجات أو التشكيك في صحتها ومصداقيتها.

ومهما بلغت وجاهة حدة الانتقادات التي وجهت إليه إلا أنه ليس بوسع أحد أن ينكر أن تقرير بيكر - هاملتون هو تقرير أميركي الدوافع والمصالح، وأنه لم يستهدف سوى شيء واحد هو الحفاظ على هذه المصالح والدفاع عنها. وينقسم هذا التقرير إلى جزءين رئيسيين: الجزء الأول يتناول دراسة وتقويم الوضع الراهن على الصعد الأمنية والسياسية والاقتصادية وموقف المجتمع الدولي منه، ويخلص إلى أنه متدهور، ويستعرض النتائج المترتبة على استمرار مثل هذا التدهور في ظل عدد من الخيارات قام باختبارها من قبيل الانسحاب السريع، أو الاحتفاظ بالسياسات الراهنة كما هي من دون تغيير، أو زيادة عدد القوات أو تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم. ويخلص هذا الجزء إلى استبعاد هذه الخيارات كافة بسبب تأثيراتها السلبية المحتملة على مكانة وسمعة ومصالح الولايات المتحدة وكذلك على مستقبل الاستقرار في العراق وفي المنطقة.

أما الجزء الثاني من التقرير فيعرض لمعالم نهج جديد يدعو إلى اتباعه يقوم على دعامتين: إحداهما خارجية، تهدف الى بناء توافق دولي جديد وتشكيل آلية دولية جديدة لدعم العراق من خلال ما يسميه التقرير بالهجوم الديبلوماسي الكبير، والأخرى داخلية تهدف الى مساعدة العراق على مساعدة نفسه. ويتضمن مجمل التقرير 79 توصية يعترف بأن أياً منها لا يقدم حلا سحريا للمعضلة لكنها يمكن - إذا ما نفذت مجتمعة وبحسن نية من دون اللجوء إلى الانتقائية المغرضة - أن تفتح بابا للخروج من الأزمة الخطيرة والمستعصية. وتتجلى أمانة النهج الذي يدعو إليه التقرير من مطالبته الصريحة للإدارة الأميركية بأن عليها أن تبدأ بإقناع العالم بأن الولايات المتحدة ليست طامعة في نفط العراق وليس في نيتها إقامة أي قواعد عسكرية دائمة ضد رغبة الشعب العراقي كشرط لا غنى عنه لنجاح laquo;الهجوم الديبلوماسي الجديدraquo;.

قد يرى البعض أن التقرير لم يضف جديدا إلى ما هو معلوم عن الوضع في العراق، أو أنه لا يستطيع تغيير أو زعزعة ما استقر من قناعات عن هذا الوضع في الضمير أو الوجدان العام، أو أنه سكت عن قضايا مهمة وتركها في الظل من دون أن يتعرض لها بالشرح أو التعقيب. وقد يكون ذلك كله أو بعضه صحيحا. ومع ذلك يمكن القول إن الطريقة التي اتبعها التقرير في انتقاء وعرض وتصنيف المعلومات الواردة فيه كانت موحية وذكية وتسمح بقراءة ما بين السطور وبالتالي كانت قادرة على الإمساك بمجمل تفاصيل الصورة من دون تحريف كبير، حتى وإن تم ذلك من منظور وطني أميركي كما سبقت الإشارة. وعلى سبيل المثال، فرغم الاعتماد في تقديره للخسائر الأميركية في الأرواح على الأرقام الرسمية وتجاهله لأي إشارة عن الخسائر في صفوف المجندين بواسطة laquo;شركات الأمنraquo;، إلا أن التقرير حرص في الوقت نفسه على أن يشير إلى ارتفاع نسبة المعاقين والمصابين بجروح خطيرة وإلى إجمالي الجرحى البالغ عددهم واحدا وعشرين ألفا. أما عند تحديده لنفقات الحرب فيبدو أن التقرير اعتمد على دراسات أكاديمية، أشرنا إلى بعضها في مقالات سابقة، كانت مصادر رسمية قد وصفتها بأنها مبالغ فيها. وهكذا أكد التقرير على أن النفقات العسكرية الأميركية في حرب العراق بلغت حتى الآن 400 بليون دولار، وأن النفقات على هذه الحرب تبلغ 8 بلايين دولار شهريا، وأن إجمالي تكاليفها قد تصل إلى الفي بليون دولار (2 تريليون دولار). وحين أشار التقرير إلى أن ميزانية وزارة الدفاع العراقية عن هذا العام لم تتجاوز 3 بلايين دولار تعمد التذكير في الوقت نفسه بأن إجمالي هذه الميزانية يقل عن نفقات أسبوعين للقوات الأميركية في العراق كي يلفت الأنظار إلى حجم الخلل البنيوي في الوضع القائم في العراق بعد أكثر من ثلاث سنوات على بداية الحرب. وربما كان أهم ما توصل إليه التقرير، صراحة أو ضمناً، يتلخص، في تقديري، في استنتاجين رئيسيين. الأول أن الولايات المتحدة، التي كانت اتخذت قرارا منفردا بشن الحرب على العراق، لم تعد قادرة على الخروج من وحله منفردة، وأصبحت تحتاج إلى عون كثيرين لإنقاذها مما هي فيه، والأمر الثاني أن أزمات الشرق الأوسط مترابطة وبالتالي فلن يكون بوسع الولايات المتحدة العثور على مخرج مشرف من أزمة العراق بأقل الخسائر الممكنة ما لم تقدم على معالجتها جميعا بشكل متزامن، خصوصا ما يتصل منها بالصراع العربي - الإسرائيلي وبالأزمة اللبنانية.

غير أن ما يقترحه التقرير من توصيات يرى أنها قادرة نظريا على العثور على مخرج مشرف للولايات المتحدة من المأزق العراقي شيء، وإمكانية وضع هذه التوصيات موضع التنفيذ شيء آخر. فحجم الفجوة ضخم إلى الدرجة التي يبدو معها العديد من هذه التوصيات وكأنه يعكس تصوراً طوباوياً غير قابل للتطبيق على أرض الواقع. وربما تعود هذه الفجوة إلى إحجام التقرير عن تقصي الأسباب الحقيقية لانغماس الولايات المتحدة في الوحل العراقي والمسؤولين الحقيقيين عن تدهور الأوضاع هناك على هذا النحو وكذلك الأطراف المستفيدة من هذه الأوضاع. ولو كان التقرير قد تقصى ذلك كله لتبين بسهولة أن تنفيذ التوصيات التي يقترحها يتوقف على حسن نيات أطراف تسببت في حدوث الكارثة أو استفادت منها أو لها مصلحة في استمرارها.

لذلك أتوقع أن تواجه توصيات لجنة بيكر - هاملتون اعتراضا، صريحا أو مضمرا، ومقاومة فعلية شرسة من جانب أطراف ثلاثة هي: إدارة الرئيس بوش في واشنطن، نظام المالكي - طالباني في بغداد، وحكومة أولمرت في تل أبيب.

فتنفيذ توصيات مجموعة بيكر - هاملتون بحسن نية يتطلب من إدارة بوش تبني سياسات براغماتية تتناقض بطبيعتها مع بنية نظامها القيمي، وهو أمر لن يكون سهلا من جانب إدارة تفكر بطريقة عقائدية واضحة. وعلى سبيل المثال يصعب تصور أن يقتنع بوش، ناهيك بأن يقدم بحسن نية، على عرض حوافز على إيران، التي تمثل في منظومته الإدراكية القيمية ضلعا أساسيا من أضلاع محور الشر، لتشجيعها على التعاون معه في إيجاد مخرج مشرف لورطته في العراق. لذلك لم يكن غريبا أن يأتي رد فعل الرئيس الأميركي على التوصيات المقترحة باهتا وانتقائيا وغير متحمس، مما دفع ببيكر إلى القول إن هذه التوصيات ليست سلطة فواكه يمكن للانسان أن يختار منها ما يعجبه، وإنما هي أقرب إلى وصفة الدواء المتكاملة. يضاف إلى ذلك أنه من المشكوك فيه أن يتمتع بوش بالقدر الكافي من المرونة والبراغماتية التي تسمح له بالانفتاح على سورية أو فصائل المقاومة العراقية في الداخل أو حتى الفلسطينيين الذين يقبلون الاعتراف بإسرائيل ويقدم لهم من الحوافز ما يكفي لضمان تعاونهم لمعالجة مشكلات المنطقة، كما يقترح التقرير. فما زالت العصا، وليس الجزرة، هي لغة بوش المفضلة، حتى بعد صدور التقرير، في التعامل مع كل هذه الأطراف.

وتنفيذ هذه التوصيات بحسن نية يتطلب أيضا من الحكومة العراقية الراهنة اتخاذ إجراءات أو القيام بتعهدات وضمانات لا نظن أن بمقدورها أن تقوم بها حتى لو أرادت. فهذه الاطراف وصلت إلى العراق على ظهر الدبابات الأميركية وحملتها صناديق اقتراع بوجود هذه الدبابات وتحت حمايتها. وربما تعتقد بعض هذه الأطراف، بخاصة الطرف الكردي، أنها باتت من القوة بحيث تستطيع أن تقول لا للسيد الأميركي. ففي التقرير فقرات عن كركوك وعن كيفية توزيع عائدات النفط لن تريح الأكراد، وفيها أيضا فقرات عن الميليشيا الشيعية باعتبارها مصدرا من مصادر العنف في العراق وعن فساد وسوء إدارة لن تريح الحكومة الراهنة ذات الأغلبية الشيعية. وأظن أن هذه الحكومة تدرك أن أي حل حقيقي للأزمة العراقية لا بد أن يكون على حساب مراكزها المكتسبة.

وأخيرا فإن تنفيذ هذه التوصيات يتطلب من أولمرت أن يكون مستعدا لسلام حقيقي مع الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين. وهنا تتجلى العقدة الأعظم. فإسرائيل التي لعبت دورا محورياً لجر الولايات المتحدة الى حرب على العراق وإدخال المنطقة في فوضى تمكنها من فرض تسوية بشروطها، لن تتعاون لإخراجها من هناك!