باتريك كوكبيرن
خلال حرب الأفيون بين بريطانيا والصين في القرن التاسع عشر، واجه المَخصيّون في المحكمة التي كانت تحاكم إمبراطور الصين مشكلة إبلاغه بالهزيمة المتكررة والمُذلّة لجيوشه. تعاملوا مع مهمتهم الحساسة هذه بإبلاغ الإمبراطور ببساطة أنّ قواته قد انتصرت بالفعل أو على وشك تحقيق انتصارات على جميع الجبهات.
لمدة ثلاث سنوات ونصف تعامل موظفو البيت الأبيض مع الأخبار السيئة الواردة من العراق بطريقة مشابهة. اتُّهِمَ الصحفيون على نحوٍ مُتكرِّر من قِبَل الإدارة الأمريكية بعدم الكتابة عن التقدّم السياسيّ والعسكريّ الذي يتم تحقيقه على الأرض، أما المعلومات المتعلّقة بفشل المشروع الأمريكي فقد تم تجاهلها أو قمعها.
غالبا ما كان التلاعب بالحقائق فظّاً. وكمثال على التشويه المُنظَّم للحقائق، كشفت مجموعة دراسة العراق أنَّه في يوم واحد من شهر يوليو 2006 أوردَ المسؤولون الأمريكان وقوع 93 هجوماً أو عملاً كبيراً من أعمال العنف. لكن في الحقيقة، يضيف تقرير مجموعة دراسة العراق:
quot;أنَّ نظرة دقيقة ومتفحِّصة للتقارير... تكشف للضوء وقوع 1100 عمل من أعمال العنف في ذلك الشهرquot;.
تم تحقيق هذا التقليص في عدد أعمال العنف المُسجَّلة رسمياً بمقدار عشرة أضعاف عن طريق عدم الإبلاغ عن جريمة قتل عراقي، أو انفجار قنبلة على قارعة الطريق، وهجمات الصواريخ أو الهاون التي تستهدف القوات الأمريكية دون أن تلحق إصابات. أتذكَّر زيارتي لوحدة من سلاح المهندسين في الجيش الأمريكي كانت مُخيِّمة خارج الفلوجة في يناير 2004 حيث أخبرتني أنّها توقفت عن الإبلاغ عن هجمات المتمردين على الوحدة باستثناء تلك التي تُسفِر عن خسائر، فالقادة لا يريدون أن يسمعوا سوى أن عدد الهجمات قد تراجع. بينما كنت متوجّهاً إلى السيارة التي كانت ستأخذني إلى خارج الوحدة العسكرية، توسَّلَ بيَّ عريف بالجيش ألا أذكر اسمه عمّا قاله بصدد عدم الإبلاغ عن كافة الهجمات. قال لي: quot;إذا فعلتَ ذلك فسأكون في مأزق حقيقيquot;.
قليل من الأباطرة الصينيين يُمكِن أن يكونوا غير مُتقبّلين للأنباء السيئة الواردة من الجبهة مما هو عليه الرئيس جورج بوش. يواظب المسؤولون الذين يعملون معه، مثلهم مثل أولئك المَخصيّين في بكين قبل 170 عاماً، في حماية الرئيس من الأخبار السيّئة. لكن حتى عندما ينجح المسؤولون المطلعون على حقيقة الأوضاع في العراق بكسر صروح البيروقراطية ويخترقون الطوق الصحيّ المفروض حول المكتب البيضويّ، فإنّهم يتلقون مقابلة اعتراف صغيرة أمام الرئيس. في ديسمبر 2004 قال رئيس محطة المخابرات المركزية CIA في بغداد: quot;التمرد يتوسّع بانتظام ولا يمكن إخماده في المحافظات السنيّة.quot; كان جواب الرئيس بوش: quot;ما يقوله أليس شكلاً من أشكال الانهزامية ؟quot; بعد أسبوع تم نقل رئيس المحطة إلى مكان آخر.
بعد بضعة أيام، نقل العقيد ديريك هارفي، أحد كبار ضباط المخابرات في وكالة استخبارات وزارة الدفاع في العراق، القضية نفسها إلى الرئيس بوش. قال هارفي عن التمرد أمام الرئيس:
quot;إنَّه صلد، يتمتع بمتانة، له قيادة جيّدة، يستخدم وسائل متنوعة ومتعددة الأشكال.quot; وحسب المعلق السياسي الأمريكي، سيدني بلومنتال، فإنَّ الرئيس قد استدارَ عند هذه النقطة نحوَ مساعديه وسألَ: quot;هل هذا الرجل ديموقراطي؟quot;
ربما كانَت قضية الإرهاب واحدة من أهم الأولويات الأساسية للرئيس بوش. لكن الغرض السياسي المُهيمن لإدارة الرئيس في غزو العراق كانَ الاحتفاظ بالسلطة في البيت الأبيض. قد تكون الإدارة قد نجحت في تصوير بوش بأنه quot;الرئيس المُدافع عن الأمن القومي الأمريكيquot;. يُمكن أن تكون قد ضخَّمت وتلاعبت بمفاهيم معيّنة مثل: quot;التهديد الإرهابي في الداخل يتطلب محاربته في الخارج.quot; يُمكن أن تكون قد حقَّقَت انتصارات عسكرية رخيصة في أفغانستان والعراق.
يُمكن أن تكون قد نجحت في صبغ الانتخابات بـ quot;الكاكيquot; التي وسمت خلالها الديموقراطيين بأنّهم جبناء وغير وطنيين. لقد نجحت هذه الاستراتيجية حتى انتخابات 7 نوفمبر 2006 لتجديد نصف مقاعد الكونجرس. كان الرئيس منتصرا في تقديمه صورة خاطئة عن العراق. وقد تمَّ كشف هذا الغش مِن قِبَل مجموعة دراسة العراق.
لقد انهارت دفعة واحدة تلك الأساطير التي تمت صناعتها بأمل أن تدوم طويلاً. على سبيل المثال، كانت معايير الخُطب الجوّالة للرئيس بوش أو توني بلير تؤكِّد، منذ بدء التمرّد، على الدور القيادي لتنظيم القاعدة في العراق، وفي الإرهاب الدولي. لكن تقرير مجموعة دراسة العراق يعلن أن quot;القاعدة مسؤولة عن جزءٍ صغير فقط من العنف.quot; المقاتلون الأجانب، الذين غالباً ما صرخ البيت الأبيض و10 داوننج ستريت مدويّاً بوجودِهم، تم تقدير أعدادهم من قبل مجموعة دراسة العراق بـ1300 رجل فقط داخل العراق. وفيما يتعلق ببناء الجيش العراقي، الذي أصبح تدريبهم جوهر السياسة الأمريكية والبريطانية، فإن التقرير يقول إن نصف الفرق العشر التي خُطِّطَ لتأسيسها تضم جنوداً سيؤدّون مهامهم في المناطق التي تسيطر عليها طوائفهم فحسب. ما يتعلّق بأفراد الجيش ككل، فمن غير المؤكَّد quot;أنّهم سيضطلعون بمهامٍ تتعلق بالأهداف الوطنية للبلاد أم وفقاً لأجندة طائفيةquot;.
على الرغم من المعطيات الواقعية هذه، فمن المحزن أن نرى كاتبيّ التقرير، جيمس بيكر ولي هاملتون، يشاركان الرئيس بوش وتوني بلير بنسبة كبيرة من سوء الفهم الذي ما زال مستقرا عندهما. سوء فهمهما يتعلق بقبول أي قوات أجنبية في العراق، على افتراض أن القوات الأمريكية المقاتلة ستُسحَب ليتم إعادة نشرها كوحدات عسكرية ذات كفاءة عالية تتولى تقديم الدعم والإسناد للقوات العراقية.
قال لي مسؤول عراقي سابق في وزارة الداخلية: quot;ببساطة، مثل هذه الخطة لن تنجح.quot; أضاف: quot;العراقيون الذين يعملون مع الأمريكيين يُنظَر إليهم من قِبَل عائلاتهم على أنّهم ملوَّثون بلطخة عار... غالباً ما كان جنودنا ينكرون لزوجاتهم وجود أيّ صلة أو اتصال لهم مع الأمريكيين...
وأحيانا يقومون بموازنة ارتباطهم مع الأمريكان بإجراء اتصالات مع المتمردين في وقتٍ واحد.quot;
لقد رفض الرئيس بوش ورئيس الوزراء بلير على الدوام الإقرار بالحقيقة البسيطة بعدم شعبية الاحتلال بين العراقيين، على الرغم من أن القادة العسكريين الأمريكان والبريطانيين قد أوضحوا أن عدم شعبية الاحتلال إنما هو الوقود الرئيسي للتمرد. أوضح تقرير بيكر - هاملتون بطريقةٍ جافة أنَّ استطلاعات الرأي أظهرت أنَّ 61% من العراقيين يؤيّدون الهجمات المسلحة على القوات الأمريكية. إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أنَّ غالبية الأكراد تدعم الوجود الأمريكي لأغراض تتعلق بطموحهم بالانفصال عن البلاد، فنتائج الاستطلاع تعني أنّ ثلاثة أرباع العرب العراقيين يُريدون أعمالاً عسكريّة ضد الجنود الأمريكيين.
عيب آخر كبير في التقرير يتضمن أنّ العراقيين يمكن جمعهم مرّة ثانية جنباً إلى جنب.
الحقيقة أنّ البلد قد كُسِرَ بالفعل إلى أجزاء. في بغداد لم يعد السُنّة يجرأون على التوجّه إلى المشرحة الرئيسية للبحث عن جثث أقاربهم القتلى لأنها تقع تحت سيطرة الشيعة، وأنهم أنفسهم قد يقتلون على أيدي المسؤولين في المشرحة، وهذا ما حصل معهم عشرات المرّات. مُستقبل العراق قد يكون ملائماً لنظام كونفدرالي وليس اتحاديّ، يتمتع فيه كلٌ من الشيعة، والسُنّة، والأكراد بحكمٍ ذاتيّ أقرب ما يكون إلى الاستقلال.
هناك نقاط مُعيّنة تضع البيت الأبيض ومعدّي التقرير في موقف خطير في آنٍ واحد. ذلك ناجم عن اعتقادهما أنَّ الحكومة العراقية برئاسة نوري المالكي يُمكن تحويلها إلى أسد قبل محاولة سحق الميليشيات (وهذا يعني عادة ميليشيا جيش المهدي) أو الانفصال عن التحالف الشيعيّ. في رأي العديد من العراقيين أن مثل هذا سيكون مجرد تأكيد آخر على الوضع الحقيقيّ للحكومة بأنها ليست أكثر من بيدق شطرنج بيد الولايات المتحدة. ما يتعلق بالحديث مع إيران وسوريا، أو العمل على حل القضية الفلسطينية، فمن المستحيل قطعاً على الرئيس بوش التراجع، بمثل هذه الطريقة العلنية والمكشوفة، عن سياساته خلال السنوات الثلاث الماضية مهما حملت نتائج هذه السياسات من مآسٍ.
- آخر تحديث :
التعليقات