نبيل ياسين
في قضية حرية التعبير نحن امام تقاطع مصالح ووسائل تقود بالضرورة إلى سياسة المعايير المزدوجة. علينا ان نعرف اولا ان الثقافة الدينية المسيحية تقوم على تصوير الانبياء. فالسيد المسيح اما ايقونة او لوحة او تمثال. بينما تحرم الثقافة الدينية الاسلامية ذلك. وقد احتاجت بعض الافلام والمسلسلات التلفزيونية, كماهو معروف, إلى فتاوى لاجازة تصوير بعض شخصيات الصحابة. وليس بالضرورة ان يكون ارث هذا التحريم الديني في الثقافة قد اصبح معروفا للغربيين. وتقع مسؤولية ذلك على المسلمين.
فضلا عن ذلك , فقد احتاجت اوروبا إلى قرون, بدأت منذ القرن الخامس عشر حيث ظهرت فلسفة الحقوق الطبيعية المعروفة بالعلمانية, حتى عام 1948, وعبر عشرات الحروب المحلية القصيرة والطويلة الامد اضافة إلى حربين شاملتين هما الحرب العالمية الاولى والحرب العالمية الثانية , لتقر المادة التاسعة عشرة من الاعلان العالمي الخاصة بحرية التعبير وتجعلها الارضية التي تقوم عليها الليبرالية الغربية وفروعها من التعددية والتسامح الديني وحرية المعتقد وحرية التفكير وحرية الرأي وهي المسميات المختلفة المعبرة عن اتساع نطلق الحرية الفردية في الاعتقاد السياسي والديني والثقافي.
كما ان هناك عنصرا أخر يقوم بفعاليته في هذا الشأن وهو المركزية الاوروبية التي ظهرت في عصر الاجتياح الاستعماري واصبخ الغرب الاوروبي مقياسا للمفاهيم والمعايير والقيم, وبالتالي فان المعايير االغربية التي اخذت تدفع السياسات الاوربية باتجاه دول القارات الاخرى اصبحت وفق هذه النظرة مقاييس دولية تلزم دول العالم بمضامينها ونصوصها كما هو الحال في الاعلان العالمي لحقوق الانسان وصكوك الحقوق المدنية , مثل الحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية وصكوك مؤتمر فينا لحقوق الانسان عام 1966 واتفاقيات جنيف واتفاقيات تحريم الاسلحة الكيمياوية وحظر انتشار السلاح النووي وغيرها. وهذه الاتفاقيات مثار جدل وتضارب مصالح , وتنحو احيانا منحى سياسيا غير حقوقي , كما انها تعتمد على القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية ايضا.
في هذه الشبكة المتداخلة من القيم والاعتبارات والمصالح تقع حرية التعبير. وهي مثار جدل لايهدأ في اوروبا, خاصة في المنعطفات التي تتهدد فيها هذه الحرية او تصبح تهديدا. لكن اوروبا تسمح للجدل ان ياخذ مداه لجميع الاطراف المعنية كما حدث في قضية سلمان رشدي بعد اصداره رواية (آيات شيطانية) وفتوى اهدار دمه التي اصدرها مرشد الثورة الاسلامية في ايران الامام الخميني عام 1989.
سلمان رشدي: حرية التعبير لمن؟
لقد اثارت تلك القضية موضوعة حرية التعبير مرة اخرى, وصدرت عشرات الكتب ومئات المقالات تناقش المدى الذي تذهب اليه هذه الحرية خاصة فيما يخص المعتقدات الدينية.ولكن في كل تلك المنافشات لايجد الرقيب له مكانا. يحد الانحياز والتعصب له مكانا ولا يحد الرقيب هذا المكان. فمقابل الكتب والمقالات العديدة التي اصدرها مسلمون في اللغة الانجليزية ضد (الكافر المارق) سلمان رشدي وجدت عشرات الكتب في اللغات الانجليزية والفرنسية والالمانية مثلا تناقش علاقة حرية التعبير بالاديان.ساشيرعلى سبيل المثال إلى خمسة كتب عن الموضوع تناقش قضية سلمان رشدي وحرية التعبير ابان الازمة الساخنة التي اندلعت اثر صدور الكتاب والفتوى ضده,وهي:( سلمان رشدي وغضب الاسلا م) لماليس روتفن الصادر في لندن عام 1991 و( سلمان رشدي: حكم بالموت) لوليم جي وذرباي الصادر في نيويورك عام1990 و(سلمان رشدي واسطورة الامة في العالم الثالث) لثيموتي برنّان الصادر في نيويورك عام 1989 و(سلمان رشدي وحرية التعبير) لسيمون لي الصادر في لندن عام 1990 و(رسائل سلمان رشدي: حرية للتعبير .. حرية للكتابة) لستيف مكدنوغ الصادر في ايرلندا عام 1993. فهي عينة اعتباطية اخترتها من عشرات الكتب التي الهبت حماسة صدورها قضية حرية التعبير, دون ان نغفل العوامل الاخرى التي تلهب الحماس للدفاع عن حرية التعبير , ومنها عوامل سياسية وثقافية ودينية.فعلى الرغم من ان معيار حرية التعبير ومعيار حقوقي الا انه سلاح سياسي ايضا بيد اوروبا.وحرية التعبير في اوروبا منافية لاستخدام العنف, لذلك تخاف اوروبا, من خلال تجربتها الطويلة في العنف, من استخدام العنف على اراضيها, واصبحت تخاف منه اذا استخدم في اراض اخرى اذا كان موجها ضد مواطنيها او مصالحها.وهناك طبقة من الحقوقيين والكتاب والصحفيين والاكاديميين ودعاة الحقوق المدنية تخشى على حرية التعبير من الذوبان في بحر المصالح السياسية. ولذلك كانت الحرب, خاصة الحرب على العراق, اختبارا لحرية التعبير من خلال مظاهر تضييق على هذه الحرية, وقد شهدت بريطانيا , وماتزال , ردود الفعل على هذا التضييق خلال الحرب وحتى الان.
قضية ايرفنغ: المحرقة ومعاداة السامية
وقد شهدت بريطانيا منذ اربع سنوات حالة اصبحت فيها حرية التعبير على المحك خلال قضية الاكاديمي والمؤرخ البريطاني المعروف ديفيد ايرفنغ,البالغ من العمر 67 عاما والذي بنى شهرته على مؤلفاته المختصة بتاريخ الحرب العالمية الثانية. فقد اقامت عليه الدعوى اكاديمية يهودية اميركية هي البروفسورة ديبورا ليبشتات في المحكمة الجنائية العليا في لندن على خلفية رأيه في كتابه ( حرب هتلر ) الصادر عام 1977 والذي يتلخص بان هتلر لم يكن يعلم حتى نهاية عام 1943 أي شئ عن المحرقة وهو الذي يعلم بكل شئ في الرايخ الثالث, وقلل من شأن صحة الارقام والحوادث الواردة بهذا الشأن. وكان ارفينغ قد اعتقل في النمسا(التي يبدو انه استدرج اليها اكاديميا) في شهر تشرين الثاني-نوفمبر من العام الماضي بسبب محاضرتين القاهما عام 1989 في النمسا انكر فيهما (افران الغاز) في معتقل اوشفيتز الشهير.واذا ما ادين ايرفنغ فانه قد يواجه حبسا لمدة عشر سنوات استنادا إلى قانون صدر في النمسا يعد التقليل من بشاعة وفظاعة جرائم الرايخ الثالث جريمة.
قضية ارفينغ شغلت وسائل الاعلام لفترة طويلة وعادت من جديد اثر حادثة اعتقاله في النمسا. فوسائل الاعلام هي الاكثر تاثيرا وتأثرا بموضوع حرية التعبير, حتى ان حق تصوير الشخصيات العامة وقع ضمن حدودها خاصة في قضية البابراتسي الشهيرة التي راح ضحيتها الاميرة ديانا اميرة ويلز, اذ طرح تساؤل عن مدى وحدود هذا الحق.
الرسم الدانماركي: حرية التعبير والكراهية الدينية
ويعتبر موضوع الكراهية الدينية الاكثر الحاحا بخصوص مديات حرية التعبير وحدودها, فهي مديات تصطدم باعتبارات كثيرة. ويقول برندان اونيل من البي بي سي معلقا على نشر الرسوم الكاريكترية عن النبي محمد(ص): ان موضوع حرية التعبير في بريطانيا يركز على البغض الديني. فالحكومة تقول ان التحريض على الكراهية الدينية عمل ضد القانون. لكن بعض المثقفين يعارضون هذا الرأي ويقولون ان الحد من حرية التعبير هو هجوم على حرية التعبير.وقد اتسعت من جديد النقاشات حول حرية التعبير , ففي الوقت الذي طالب فيه ائمة المسلمين في بريطانيا الحكومة بتغيير القوانين الخاصة بحرية التعبير لعدم السماح للصحف البريطانية باعادة نشر الرسوم الكاريكاتيرية الدانماركية, كتب فيليب هانشر وغاري يونغ مقالين في الغارديان عبرا فيهما عن وجهتي نظر تلخصان اتجاهات الجدل الدائر حول الموضوع, اذا يتساؤل هانشر قائلا: هل يكفي حق التعبير لنشر الكاريكتير الدانماركي؟ ويقرر ان هناك تصادما بين حرية الفرد الذي يملك حرية التعبير وبين قيم فرد آخر, وبالتاكيد فقد اهان الكاريكتير شخصا ما لانه اهان قيمه.لكن يونغ, الذي تعامل مع الموضوع من زاوية اخرى, يرى فيها حق الطرفين في التعبير, وقال انه في عام 2000 نشرت مجلة نيوستيتمان, غلافا يتضمن العلم الاتحادي البريطاني مخوزقا على نجمة داوود مع تعليق يقول:مؤامرة الكوشر. والكوشر هو طعام الحلال اليهودي, فما كان من من فريق يسمي نفسه لجنة العمل ضد معاداة السامية الا وان احتل بشكل استعراضي مكاتب المجلة مطالبا المجلة بالاعتذار, فقد كان الرسم يثير قضية الحساسيات التاريخية لليهود البريطانيين.ويثير يونغ قضية معاصرة جدا وسياسة جديدة حين يقول انه لايتذكران تصادما حضاريا حصل بين القيم اليهودية وبين تقاليد الغرب في قضية حرية التعبير والديمقراطية.وهو يؤكد انه دعا عددا من مسؤولي المجلات الاوربية لاعادة نشر غلاف المجلة في بلدان اوروبا للتضامن مع حرية التعبير.
فهل يعني ذلك ان ننظر إلى موضوع الرسوم الدانماركية من زاوية صدام الحضارات؟
اعتقد ان الموضع يتعلق اصلا برغبة الغرب الديمقراطي الليبرالي باشاعة حرية التعبير لاهداف سياسية واقتصادية عديدة. فالشرق الاسلامي والروحاني يشكل احد امرين: اما تهديدا مباشرا كما هو الحال في الحركات المتطرفة التي تستهدف الغرب مباشرة باستخدام العنف, واما حواجز ثقافية وعرفية وتقليدية تمنع حرية تدفق المعلومات لاسباب اقتصادية بالدرجة الاولى وتستخدم وسائل سياسية واعلامية وفكرية. فحرية التعبير تكسر هذه الحواجز وتطيح بنفوذها التاريخي, ولذا فان سياسة صدام الحضارات, مهما اتخذت من اشكال للتجلي,تقف وراء بعض خروقات حرية التعبير الموجهة ضد الاسلام.
حرية التعبير: رمز اوروبا
لكن هذا لايعني ان قضية حرية التعبير قد حسمت لصالح الغرب وحده. فاذا ما القينا نظرة لاختيار عينة عشوائية من الكتب الصادرة حول الموضوع سنجد ان الجزء الثاني وحده من كتاب(حرية التعبير) الصادر عام 2000 لمؤلفه الـ . الكسندر يقع في 1136 صفحة مخصصة فقط للفترة من 1825 إلى 1865 في فرنسا لرصد معركة حرية التعبير وضحاياه في بلد من اهم بلدان الديمقراطيات في اوروبا.بينما نجد فردريك توبين, الالماني المختص بالهولوكوست, يعتبر حرية التعبير موضوعة عالمية معولمة دون مبررات لحصرها في اوروبا , ففي كتابه( حيث الحقيقة غير محمية اريد ان اكون حرا) الصادر عام 2001 يبحث المؤلف اليهودي في بولندا واوكرانيا وايران عن حريات الجاليات اليهودية في العالم قبل ان يعود إلى برلين. كما يعتبر البروفيسور ديفيد فورسيت في كتابه( حقوق الانسان في العلاقات الدولية) الصادر عن كمبردح عام 2000 عالمية حقوق الانسان في القرن الحادي والعشرين.
وعلى الرغم من فتو او تابو اوتحريم البحث في الهولوكوست من خلال موقف سلبي او متشكك , اقدم كتاب يهود, منطلقين من موضوعة حق التعبير ذاتها, على نقد الموقف الذي يجعل من الهولوكست صناعة, كما فعل المؤرخ الامريكي اليهودي نورمان فنكلشتاين في كتابه( صناعة الهولوكوست: ردود فعل تضخيم المعاناة اليهودية) وفكرة فنكلشتاين هي : ان الاخطر على موضوع الهولوكوست ليس انكاره وانما تضخيم صناعته.
لاننكر ان قوانين معاداة السامية كانت خاصة. أي انها شرعت وراء التشريعات العامة الديمقراطية التي تبنتها اوروبا الديمقراطية منذ القرن التاسع عشر. ففي فرنسا واجه الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي قانون (غيتسو) وهو شيوعي فرنسي ربما كان من اصل يهودي كما يعتقد البعض, وكان نائبا في البرلمان ووزيرا للعمل في الحكومة الاشتراكية, اثر صدور كتابه( المصادر المؤسسة للاساطير اليهودية). وخضع غارودي اثر صدور الكتاب للمحاكمة التي عقدت عدة جلسات استنادا لقانون غيتسو الذي يمنع مناقشة قضية المحرقة وافران الغاز. وقد صدر القانون عام 1989 .أي بعد قرنين بالضبط على الثورة الفرنسية واعلانها الشهير عن حقوق الانسان .دافع غارودي عن نفسه, وكان من الواضح, مثلما حدث في قضية ايرفنغ في بريطانيا, ان حرية التعبير ليست محددة بمساطر وارقام , ولكن المحاكمات تحمل في طياتها بث الذعر والتخويف والابتزاز وصناعة وسائل وقائية للمستقبل.فقد اصبح اسم غارودي منسيا وخامل الذكر في فرنسا والحديث عنه شبه ممنوع في خضم التضليل الاعلامي السائد. ولم يجد من يدافع عنه سوى المحامي برجس الذي دافع عن جميلة بوحيرد في الستينات.
كما تعرض الفيلسوف ادغار موران,رئيس معهد البحوث الفرنسية, وهو متعاطف مع القضايا العربية ومن اصل يهودي,بعد كتابته مقالا بعنوان( اسرائيل: سرطان الشرق الاوسط) قبل اربع سنوات ينتقد فيه سياسة اسرائيل, للمحاكمة اثر دعوى رفعت ضده من قبل المجمع اليهودي الفرنسي باعتباره معاديا للسامية. وقد لايكون المقال هو السبب الذي حرك قضية ضده , وانما موقفه الداعم, قبل عشر سنوات, لاحد المؤرخين الفرنسيين الذي استند إلى فلسفة ديكارت في الشك وتساءل عن امكانية حدوث المحرقة اليهودية على ايدي النازيين.
وفي فرنسا تعرض رئيس تحرير اللوموند السابق بلينيل لمضايقات وتهديد على خلفية موقف سياسي ككما تعرض اساتذو في جامعات فرنسية مثل جامعة نوت وجامعة ليون من الذين حاولوا بحث مضوع المحرقة في سياق تاريخهم لمجريات ووقائع الحرب العالمية الثانية.
تشكل قضية المحرقة ظاهرة جديدة في اطروحة حرية التعبير, فالقوانين التي صدرت في بلدان مثل فرنسا والنمسا هي قوانين جديدة جاءت بعد التشريعات الاساسية لحرية التعبير كما قلنا . وتعلق ديبورا ليشتات على موضوع المحرقة قائلة:انا لا احبذ مناقشة من ينكر الهولوكوست اذ ان ذلك يشبه مناقشة من يعتقد ان الارض مسطحة, لكن علينا ان لانسمح للمنكرين ان يكونوا شهداء. ولتحقيق ذلك, أي تحقيق ضربة وقائية دعت ليبشتات في تعال ِ وكلمات قاسية إلى اطلاق سراح ايرفنغ قائلة(دعوا الولد يذهب إلى بيته, فقد قضى مايكفي من الوقت في السجن ). وهي تخشى ان يتحول إلى ضحية وشهيد فتضيف( دعوه يذهب ليواصل كلامه مع ستة نفرات في القبو. دعوه يذهب ليذبل ويذوي في الظلمة التي جاء منها)
وخلال الحرب على العراق خضعت حرية التعبير للنقاش واصبح نقد الموقف الرسمي من الحرب حذرا في وسائل الاعلام دون ان تغفل عن تغطية التظاهرات التي انطلقت منددة بالحرب . لكن الحذر لم يصل إلى المنع او الملاحقة. فدخول بريطانيا في الحرب وقع ضمن المصالح القومية الكبرى التي تتوحد فيها الارادات والمواقف دون المساس بحرية التعبير التي شهدت لاول مرة الحاق الصحفيين والمراسلين بالجيشين الامريكي والبريطاني.
تبقى حرية التعبير رغم كل شئ احدى معالم النظام الديمقراطي في الغرب, ولكنها ماتزال بعد قرون على ظهورها كمعلم, خاضعة لنقاشات حادة وفي كل مرة يتعرض دين لضغينة او كراهية تبرز حرية التعبير لتحمي نفسها قبل ان تحمي الطرفين.
التعليقات