الجمعة: 2006.05.26


عمر كوش

تعرّف المثقفون العرب إلى الخطوط العريضة للمنظومة الليبرالية التي صارت تغذي أذهان بعض الكتاب والصحافيين والسياسيين منذ أوائل القرن التاسع عشر كفرانسيس المراش ورفاعة الطهطاوي، ويعقوب صروف ومحمد عبده، وطه حسين.. الخ، وحاول هؤلاء أقلمة المفاهيم الليبرالية وأرضنتها في التربة العربية الاسلامية، لكنهم مع الأسف لم يذهبوا بعيدا، بل اكتفوا بالمناداة والمطالبة بحرية الاجتهاد وليس بحرية الفرد الفكرية، ونادوا بالأوربة وأهملوا الأقلمة، وانشدّوا إلى قضية الدولة، ولم يجترحوا مفهوماً للذات المستقلة ولقدرات العقل المعيارية، كما لم يفطنوا لحرية العقل بوصفها احدى مرتكزات الليبرالية الأساسية، فلجأوا عوضا عنها إلى التوفيق والوسطية ومركباتهما، بل وساهموا في إعادة إنتاج وتثبيت العقل التوفيقي، فغاب الإنسان بوصفه مركزاً للكون، لتحلّ مركزيات الهوية والدين. ولا شك في ان معظم المثقفين الليبراليين اتخذوا منحى أوروبياً في أسلوب تفكيرهم، وفي الموقف من العقل والعلم ومن قضايا الحرية والمساواة، أي أصبحوا ليبراليين دون ان يعرقل اسلامهم أو مسيحيتهم ذلك، ودون ان يعرقل ذلك ايضاً تمسك بعضهم الشديد بأصوله الريفية.
وقد نظر المثقفون الليبراليون إلى الليبرالية نظرة جزئية، فمنهم من اختار معركة العقل تاركاً بقية التطلعات الليبرالية، بل ربما اتخذ موقفا سلبيا منها، فيما اكتفى بعضهم بالدعوة إلى العلم، والبعض الآخر سار حافي القدمين على شوك معركة الداروينية، أو معركة الشك الديكارتي، أو حق تكوين الأحزاب، أو معركة الوحدة الوطنية، أو تحرير المرأة.. الخ، دون ان يدركوا ان الليبرالية هي رؤية متكاملة، ولا تكون الا كذلك.
ولم يدرك الليبراليون العرب ان معركتهم واحدة وأن مصيرهم واحد، فوقعوا في أخطاء عديدة حين اعتقدوا ان ليبراليتهم مرادفاً للأوربة أو للتغريب، وأن مهمتهم هي إقامة نموذج ليبرالي أوروبي في البلدان العربية، الأمر الذي أوقعهم في متناقضات عديدة، وساهم ذلك في توجه البعض الذي أفزعته نزعة quot;التغريبquot; نحو quot;سلفيةquot; أفرزت وبشكل سريع تيارات سلفية وأصولية تدعو إلى أسلمة المجتمع وأسلمة السياسة وأسلمة العلم إلخ..
ويمكن القول ان الضعف الذي شاب الليبرالية في بلاد العروبة والإسلام كان ضعفاً بنيوياً، كامناً في ذات البنية المجتمعية والظروف الموضوعية للنشأة الليبرالية، وتوازنات القوى المختلة في وقتها اختلالاً شديداً، حيث كانت المجتمعات العربية بمثابة حلقة ضعيفة، مكتملة ومغلقة، لكنها حلقة مفرغة تدور حول نفسها، فتحت ظل الاحتلال الاجنبي لا يمكن التمتع بإرادة مستقلة، ولا يمكن قيام حركات دستورية، وبدون استقلال لا يمكن قيام أي تطور أو أي اصلاح. وعليه فإن الفارق الجوهري ما بين الليبرالية الأوروبية والليبرالية العربية، هو ان الأولى قامت على اكتاف مجتمع اكتملت تشكيلته الاجتماعية والسياسية، فيما كان النمو الليبرالي العربي جزئياً وضعيفاً، لكونه حاول النمو في وجه مقاومة من الاحتلال والقوى المتحالفة معه.
لم ينتبه الليبراليون العرب إلى ان بلادنا العربية بحاجة ماسة إلى ربط الحرية بالتحرر، والديموقراطية بحاجات المجتمع الذي يتطلع لدولة لها وظائف حقيقية، وليست دولة ميتافيزيقية أو فوقية تضع نفسها فوق الجميع، وتقتصر مهمتها في التنسيق بين فئاته فقط، وإن واقعنا العربي القائم يحتاج إلى ديموقراطية تتواءم مع احتياجات المجتمع في التطور والتنمية، وإلى تحرر اقتصادي واجتماعي، وإلى كبح جماح الحرية الفردية النفعية المنفلتة.
وتختلف الليبرالية العربية الراهنة من حيث جذور النشأة والتركيبة المجتمعية والأهداف، عن الليبرالية الأوروبية في عصور الأنوار، والليبرالية العربية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ويمكن القول ان الحركة الليبرالية العربية الراهنة هي تيار متعدد الحساسيات السياسية والفكرية، وتتشكل اساساً من ثلاثة روافد اساسية هي: بعض المثقفين والاكاديميين والجامعيين الذين همشوا وأقصوا سنوات طويلة عن مجال العمل السياسي، وعدد محدود من ناشطي منظمات المجتمع المدني الحديثة العهد والتي يقتصر نشاطها في مجالي العمل العام والحراك السياسي، ومن الأحزاب السياسية المعارضة والضعيفة التي أقصتها السلطات السياسية الحاكمة وحدت من مجال عملها ونشاطها إلى مواقع محدودة جدا في الحقل السياسي، إضافة إلى افراد من القطاع الصناعي والمنتج.
ولا شك في ان الليبرالية الجديدة تعاني ـ عربياً ـ من ضعف شديد، نظراً لجملة من العوامل الاجتماعية والسياسية، والتخبط بين ممثليها وأوساطها، وعدم وضوح المشروع الذي يجنح احيانا إلى تبشيرية جديدة. وقد التبس الأمر على بعض المثقفين العرب من الليبراليين الجدد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والتفتوا إلى أهمية الديموقراطية، لكنهم عمدوا إلى الخلط بينها وبين افكار الليبرالية، وانحازوا إلى نموذج الليبرالية القديمة الأكثر ديموقراطية والأقل توحشاً، لكن هل من الممكن معالجة الأوضاع الجديدة بأدوات قديمة؟.
ان بلداننا العربية تعيش مراحل تتسم بصعود مختلف الولاءات ما قبل المدنية، ولم نشهد بعد قيام الدولة الحديثة ومرجعياتها كذلك. ومع الإقرار بحاجة مجتمعاتنا للديموقراطية لإقامة الحكم الصالح وتشييد المواطنة وتحقيق المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص، فإنها بحاجة ايضا إلى التحرر السياسي والاقتصادي بما يعني إعادة بناء مجتمعاتنا الحرة والمتحررة وثقافتنا القومية وهويتنا الوطنية، وبالتالي فإن كثير من العمل ينتظر أي دعوة لأقلمة الليبرالية عربياً.