الجمعة: 2006.06.16
صبحي حديدي
للوهلة الأولي تبدو المعادلة خرقاء حمقاء ذات نتائج مدمّرة بعيدة الأثر، قبل أن تتكشف عناصرها عن انسجام عالٍ مع معظم المعادلات الأعلي التي منها تتشكّل فلسفة ما تسمّيه الولايات المتحدة الحملة ضدّ الإرهاب . وهذه المعادلة تدير الميزان التالي: أغلقوا هنا ثغراً (أي: حاضنة!) للتشدد الإسلامي الذي يهييء المناخات ويصنع ويصنّع موضوعياً ظواهر التطرّف والإرهاب، ولكن لا بأس أن تفتحوا هناك ثغراً جديداً لتشدّد مماثل، أو أدهي، بهوية مختلفة وأجندات ملتهبة. وفي صياغة عملية، راهنة: أغلقوا ثغور الطالبان في أفغانستان، وافتحوا ثغور المحاكم الشرعية في الصومال... أو في صومال ـ ستان ، كما يجدر القول!
أنباء اليوم والأمس، والأيام والأسابيع القليلة المنصرمة، تفيد بأنّ ميليشيات المحاكم الشرعية هذه أحكمت السيطرة علي مدينة جوهر (دون قتال، عملياً)، ثمّ مدينة مهداي، وقبلهما العاصمة مقديشو ذاتها، حيث طُرد منها أمراء الحرب للمرّة الأولي منذ العام 1990. الترجمة الموازية لهذه الانتصارات هي هزيمة القوّات التابعة لأمراء الحرب هؤلاء، الذين يضمّهم التحالف من أجل السلم ومكافحة الإرهاب ، المدعوم مباشرة ـ وكما ينبغي أن يوحي الاسم! ـ من واشنطن... رائدة السلم وقائدة مكافحة الإرهاب! في الآن ذاته كان البرلمان الصومالي، وبعد انهيار المفاوضات مع الإسلاميين، يصوّت علي مبدأ استقدام قوّات أجنبية لحفظ الأمن في البلاد.
والحال أنّ هذا الاعتبار الأساسي بالذات، أي حفظ الأمن وتسيير شؤون المواطنين في الجانب القضائي والأمن والحياة اليومية تحديداً، كان البذرة الأولي التي أنبتت المحاكم الشرعية في الصومال، بعد انهيار الحكومة العسكرية سنة 1991 وشيوع الفوضي وأعمال الشغب والنهب المنظم والعنف المسلح والجريمة والخطف. وكان هذا الغياب للدولة، وبمعني الغياب التامّ لأية جهة قضائية شرعية في المقام الاوّل، هو الذي جعل الشيخ الأزهري محمد معلم حسن يؤسس أوّل محكمة شرعية محلية في أحد أحياء مقديشو الفقيرة. وغنيّ عن القول إنّ هدفه لم يكن يتجاوز الفصل في شكاوي الناس والتحكيم بينهم، اعتماداً ـ بالطبع، وفي ظلّ غياب أيّ قانون ـ علي أحكام الشريعة الإسلامية. كذلك كان طبيعياً أن تنقلب هذه المحاكم إلي ما يشبه وزارة الظلّ، ثمّ فيما بعد وزارة الأمر الواقع، لشؤون العدل والداخلية.
وهكذا فإنّ المحاكم الشرعية لم تبدأ كدعوة إسلامية تبشيرية، أصولية أو وسطية او معتدلة؛ ولم تتكيء علي منطلقات دينية أو مذهبية أو سياسية ـ حزبية، أياً كانت تقاطعاتها مع مختلف أنساق الإرهاب المنظّم؛ ولم يكن لها برنامج عمل تنظيمي أو جماهيري، ولا سياسة تحالفات محلية أو إقليمية. لقد بدأت من الحاجة، الماسة الصرفة، لتصريف أمور العباد في ظلّ سيادة الفوضي وغياب الدولة وحاجة المواطنين إلي جهة مرجعية متماسكة نسبياً، ذات غطاء شرعي وقوام إداري وسلطة تنفيذية، ليس أكثر. وليس أقلّ أيضاً، في الواقع، لأنّ هذا الموقع الوظيفي الحيوي أتاح لرجال المحاكم الشرعية أن يلعبوا الدور الوظيفيّ الآخر التالي، الذي لا يمكن إلا أن يكون طبيعياً وتلقائياً وتحصيل حاصل: الهيمنة السياسية.
نتيجتان، بين عوامل أخري، زيّنتا لغالبية ملموسة من الصوماليين الانضواء تحت راية هذه المحاكم: النتيجة الأولي هي بغض الشارع للطبقة السياسية ـ العسكرية التي زادت في خراب البلد وتخريبه، فضلاً عن فقدان الثقة بأمراء الحرب إجمالاً، وتحميلهم المسؤولية الأساسية عمّا حاق بالصومال من كوارث. النتيجة الثانية هي بغض الشارع ذاته لكلّ ما يقترن بالسياسة الأمريكية، وكلّ مَن يشتغل لصالح واشنطن أو يعمل بإمرتها ويحظي بدعمها، لأسباب محلية تخصّ التاريخ الدامي بين الصومال والولايات المتحدة، ولأسباب أخري ذات صلة بسياسة واشنطن تجاه القضايا العربية والعالم الإسلامي عموماً.
وزاد الطين بلّة أنّ واشنطن، في أعقاب هزّة 9/11 وانطلاق ما أسماه الرئيس الامريكي جورج بوش الحملة الصليبية علي الإرهاب، صنّفت المحاكم الشرعية في عداد القوي الداعمة للإرهاب، استناداً إلي ما افترضه البيت الأبيض من علاقة وثيقة بين المحاكم و الإتحاد الإسلامي ، المنظمة التي تدرجها وزارة الخارجية الأمريكية في اللائحة الرسمية للمنظمات الإرهابية، ثمّ بمنظمة القاعدة في نهاية المطاف. ذلك أسفر عن نتيجة معاكسة، بالطبع، لأنّ شعبية المحاكم زادت واتسعت واكتسبت بعداً كفاحياً ضدّ الصليبية الأمريكية الجديدة ، كما عبّرت دعاوة المحاكم (ولم يكن بغير أسباب وجيهة أنّ معركة مقديشو الأخيرة استحقت عند الصوماليين تسمية معركة الأمريكيين )، من جهة أولي؛ ومنحت قياداتها الحقّ في توطيد شوكتها العسكرية، بذريعة الدفاع عن النفس وحماية المواطنين وتطبيق القانون والحدّ من الجريمة والفوضي، من جهة ثانية.
في غضون هذا كلّه كانت واشنطن تواصل تنسيقها مع الرئيس الإثيوبي ميليس زيناوي، الذي يدير لعبة خبيثة مزدوجة في الصومال: إنه، في البلاغة الرسمية، يتباكي علي وحدة أرض الصومال، ويشفق عليه من تسلل القاعدة ، أو ظهور زرقاوي جديد علي يد الكوموري فاضل عبد الله محمد (الذي تتهمه واشنطن بالمشاركة في نسف السفارتين في كينيا وتنزانيا، وترجّح لجوؤه إلي الصومال)؛ أمّا في الفعل المستتر فإنّ زيناوي ينوب عن واشنطن في الدعم العسكري والمالي لأمراء الحرب الذين يُبقون الصومال في حال دائمة من الاقتتال والتحارب وانعدام الاستقرار، وهي الحال التي تُبقي زيناوي مسيطراً في القرن الأفريقي.
وفي الغضون ذاتها تتعامل الأمم المتحدة مع المستجدات علي طريقة النعام الذي يدفن الرأس في الرمال، فتسبغ المزيد من الشرعية علي الحكومة الفدرالية الانتقالية بزعامة العقيد عبد الله يوسف (وهي الشرعية الغائبة بصفة شبه تامة عملياً، في أنظار الشارع الصومالي و المحاكم الشرعية وأمراء الحرب علي حدّ سواء)، أو علي حفنة من البرلمانيين المجتمعين في بيدوا، مجرّدين من كلّ حقّ وسلطة وصلاحية باستثناء الكلام والخطابة. وإذ يصغي المرء إلي فرانسوا لونسيني فال، ممثّل الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان في الصومال، فإنّ الفارق يلوح ضئيلاً أو شبه منعدم بين ما يقوله هذا المسؤول الأممي، وما يقوله دونالد ياماموتو مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية، أو حتي الأدميرال ريشارد هنت قائد قوّة المهمات الأمريكية في القرن الأفريقي!
ولماذا، في المآلات المجتمعة جرّاء هذا المشهد السياسي والعسكري والعقائدي والاجتماعي المعقّد ذي الدينامية المتفجرة، لا تنقلب حركة المحاكم الشرعية إلي طالبان جديدة في الصومال، فيصبح مشروعاً أن يشتقّ المرء هذه الصياغة المحزنة: صومال ـ ستان؟ ألم يبدأ طالبان أفغانستان من هنا، مع فارق أنها حظيت بغمزة رضا وتراضٍ من واشنطن في مراحل الانطلاق المبكرة؟ ألا يبدو الهوس الأمريكي بمنع أفغانستان من الوقوع في يد إسلاميي المحاكم الشرعية ، وكأنه ترخيص لهذه المحاكم بالذهاب أبعد من فضّ المنازعات القضائية بين الأهالي، إلي حكم البلاد بأسرها وفرض الشريعة الإسلامية بقوّة السلاح هذه المرّة (وهو، للمفارقة، سلاح أمريكي ـ إثيوبي في الغالب، غنمه مقاتلو المحاكم في معاركهم ضدّ أمراء الحرب وعملاء أمريكا وزيناوي)؟
ولا يظنن أحد أنّ الصومال، من حيث التاريخ والعقيدة والوقائع، أفقر من أفغانستان في معطيات تشكيل حاضنة التطرّف الإسلامي الذي ينتهي بعضه إلي أنساق الإرهاب ذاتها التي قوّضت برجَي نيويورك في 11/9 الأمريكيون، خصوصاً، ليسوا بحاجة إلي مَن يذكّرهم بأنّ صومال ـ ستان التي توشك علي الولادة قد تكون أدهي من أفغانستان في اعتبارات كهذه، ولهم في تاريخهم هناك دروس وعِبَر! ففي أواخر العام 1992، حين رست أولي قطع الأسطول الحربي الأمريكي علي شواطيء الصومال، تردد أنّ السفير الأمريكي في كينيا استقبل وحدات بلاده بهذه العبارة الصقيعية القاتلة: إذا كنتم قد أحببتم بيروت، فلسوف تعبدون مقديشو . أي، في ترجمة أوضح ربما: إذا كانت بيروت (خصوصاً بعد العمليات الإنتحارية وانسحاب المارينز المهين) هي النار، فإنّ مقديشو هي سقر... وبئس المصير!
والولايات المتحدة اكتشفت أفريقيا في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، ومنذ ذلك الاكتشاف ظلّ مخططو السياسة الخارجية الأمريكية يمارسون في القارّة دور الثور الضخم البليد الذي يغرق في سبات عميق حتي تلوح في الأفق نجمة حمراء سوفييتية، وعندها فقط يهيج ويرغي ويزبد، فيحيك المؤامرات ويشتري العملاء ويسلّح الطغاة حتي النواجذ. خلال الثمانينيات صرف الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان مئات الملايين من الدولارات لإغواء واجتذاب أسوأ دكتاتوريي القارّة، في ليبيريا وكينيا والصومال وزائير وسواها. وخلال تلك الحقبة بالذات قبض محمد سياد بري، دكتاتور الصومال الأشهر، أكثر من 700 مليون دولار علي شكل مساعدات مالية وعسكرية من إدارتي ريغان وجورج بوش الأب، استخدمها في بناء شبكات الولاء العشائرية، وقمع الشعب الصومالي، وتفتيت الوحدة الوطنية الداخلية.
وهل ثمة حاجة إلي التشديد علي أنّ غزوة واشنطن الصومالية تلك، في عام 1991، لم تكن تسعي إلي اقتفاء أثر القاعدة أو مطاردة أسامة بن لادن، بل كانت مشروع انتداب عسكري يستهدف استئناف ما كان سياد برّي يقوم به لصالح واشنطن، أي ضبط القرن الأفريقي. كذلك كانت الغزوة تسير علي نقيض صريح، وصفيق تماماً، مع منطوق مجلس الأمن الدولي رقم 751، الذي خوّل نشر قوّات عسكرية أممية لتنظيم عمليات الإغاثة الإنسانية، لا لشيء إلا لأنّ الرجل المسؤول عن خراب البلد (سياد بري) كان ببساطة صنيعة البيت الأبيض! وفي تلك الأثناء كان رجل مثل هنري كيسنجر يفلسف الغزوة علي أنها محض ممارسة للعبء التمديني الملقي ـ تاريخياً، حضارياً، سياسياً، واقتصادياً... ـ علي عاتق الرجل الأبيض. وأمّا عملياً فقد كانت القارّة تستشرف المزيد من المجاعات والأوبئة والحروب الأهلية، وتخضع أكثر فأكثر لهيمنة مؤسسات كونية لا تشتغل إلا لصالح اقتصاد السوق، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بحيث صارت اجتماعات مجلس الوزراء في غانا غير شرعية إلا إذا حضرها مندوب البنك الدولي!
الآن استبدل الثور الأمريكي النجمة السوفييتية الحمراء بالراية الإسلامية الخضراء، أو ربما بالهلال فقط، تسهيلاً للأمريكي ذي الوعي المتوسط أن يدرك مغزي التوافق في العلامة، بين النجمة والهلال! والآن حلّت ذريعة محاربة الإرهاب الإسلامي محلّ ذريعة محاربة الشيوعية، دون ان يتغيّر الكثير في المعادلة الفاسدة العتيقة: لكي تحارب هذا أو ذاك (الشيوعية أو الإرهاب الإسلامي)، ينبغي أن تساند الطغاة علي الأرض، أياً كانت موبقاتهم وجرائمهم. ويبقي، إلي هذا، أنّ تعلّم أيّ شيء من دروس التاريخ ليس خياراً غير ممكن او حتي غير مطروح علي رجالات البيت الأبيض فحسب، بل هو عند بعضهم رياضة ماركسية ديالكتيكية غير مستحبة أيضاً!
وقبل الولايات المتحدة كان التاج البريطاني قد اكتشف وكر الدبابير الصومالية، حين قام السلاح الجوي الملكي بقصف بلاد الصومال عشرات المرّات في عام 1919، لقمع ثورة محمد بن عبد الله حسن بربر (أو الملاّ المجنون كما سيصفه أرشيف حروب الإمبراطورية البريطانية)، فلم يفلح التاج إلا في حراثة الرمال. الجنرال إسماي، قائد القوات البريطانية في الصومال آنذاك، كتب في مذكراته يقول: ما تكاد طائرات سلاح الجوّ الملكي تغادر سماء المعركة بعد إلقاء حمولاتها المدمرة، حتي تعجّ الصحراء بالدراويش والهتافات: الله أكبر! الله أكبر! لكأنهم يخرجون من شقوق الصخر وأخاديد الصحراء ...
.. أو لكأنهم، كما يفعلون اليوم، يخرجون من أروقة المحاكم الشرعية !
- آخر تحديث :
التعليقات