محمد الرميحي

عجيب أمر الديموقراطية العربية أو بالأحرى بعض أشكال ممارستها في بعض بلداننا. يبدو أنها حمالة أوجه إلى درجة أنها تستخدم ضد جذور فلسفتها من دون إنذار سابق، كما تغير الحية جلدها. ففي الوقت الذي تُدرّس أشعار الشاعر البحريني قاسم حداد في مدارس البحرين، تقوم الدنيا في مجلس منتخب هو البرلمان حول مسرحية قيس وليلى التي هي من أشعاره. اعتبرها البعض خارجة عن quot;القيمquot; التي يريدونها، وكأن الشاعر أو الفنان المبدع يجب أن تكون لديه مسطرة ما من اجل أن يقيس بها ما يكتب ويبدع لإرضاء البعض!
الضجة القائمة في البحرين لا تعني أهلها فقط، بل تعني كل مهتم بكلا الجانبين. التطور الديموقراطي وتعاطي الثقافة.
ربيع الثقافة في البحرين هو برنامج ثقافي من أفضل برامج الثقافة العربية، متنوع وغني وله رسالة في رفع الذوق العام وتنشيط الحياة الثقافية، وقد أصبح قبلة لمن يريد أن يستمتع بفن حديث تجتمع فيه الموسيقى بالشعر بالمسرح وببقية الفنون ليضفي على ربيع البحرين المعتدل اعتدالا في التعاطي الثقافي متحضراً ورفيع المستوى كما انه برنامج معتمد في غالبية نشاطاته على تمويل ذاتي.
حضرت شخصيا عرض فرقة كركلا اللبنانية قبل أسبوعين، وكان الجمهور ليلتها يقرب من الألفين رجالا ونساءً، شبابا وكبارا من كل الجنسيات في موقع تراثي تاريخي جميل. شاهد الجمهور واستمتع في إطار من الاحترام الكامل. ولما خرجت من اللقاء الثقافي الدافئ شاهدت كثيرين أتوا البحرين من المناطق الخليجية القريبة للاستمتاع بهذه الفنون الجميلة. وبعد أيام ثارت الضجة على برنامج آخر عرض في الموسم الجميل نفسه، وكأن البحرين لم تطرب لاشعار ابن لعبون، ذلك المبدع السابق لعصره، قبل أكثر من قرن، أو موسيقى محمد بن فارس، أو لم تقرأ كتابات عبد الله الزايد قبل أكثر من نصف قرن. كلمات قاسم حداد أصبحت quot;منكراquot;.
في البحرين قضايا سياسية ملحة كان حريا بأعضاء البرلمان الذي انتخبه الشعب أن يلتفت إليها ويقدمها كأولوية قصوى في عمله النيابي، وعلى رأسها الحفاظ على انسجام النسيج الاجتماعي. ثم هناك القضايا الاقتصادية وإتاحة فرص العمل، وبرامج التعليم والتنمية بأشكالها المختلفة. ويمكن رصد خمسين قضية على الأقل، ملحة ولها أولوية لدى الناس قبل الوصول إلى quot;الحفاظ على الأخلاق العامةquot; التي ادعى البعض انه يريد صونها. وكأن ما حدث في عرض ثقافي مميز هو quot;خرق فاضحquot; لأخلاق المجتمع. إنه البحث عن الشُعْبَوية ربما. ونسي البعض أو ربما لم يسمعوا قول ونستون تشرشل إلى شعبه (ليس لدي إلا الدم والدموع) في إشارة الى قول الحق للعامة، لا تزلفهم وإثارة مكامن العواطف الجياشة لديهم، بادعاء خرق الثابت من الأخلاق.
بعض الذين يقدمون أنفسهم للعمل الديمقراطي في بلادنا يسرهم أن يسايروا العامة في اختلاق قضايا بعيدة عن أية قضية تنموية حقيقية كي يركبوا موجة الدفاع عن quot;قيم المجتمعquot;. وكأن هذا المجتمع، لا سمح الله، quot;بلا أخلاقquot;، أو أن الشعب قد انتخبهم فقط للحفاظ على quot;الأخلاق الحميدةquot; من وجهة نظرهم، لا للحصول على خدمات أفضل وبرامج تعليم حديثة، وفرص عمل منتجة، ومتابعة الفساد الإداري والمالي، إلى آخر ما يجب أن يقوم به أعضاء المجالس المنتخبة من أعمال تعود على المجتمع بفائدة.
حقيقة الأمر أن تلك الضجة التي تابعتها وسائل الأعلام العربية والعالمية تفرض تساؤلاً رئيسا: هل شعوبنا غير قادرة على استخدام آليات الديموقراطية من اجل تقدمها؟ وهل هذه الآليات، كما يحدث في مناطق أخرى، تستخدم quot;بكفاءةquot; لعرقلة خطوات المجتمع في مسيرة التنمية الحقيقية؟ وهل يعرف هؤلاء أن quot;الأخلاقquot; نسبية ومتغيرة مع الزمن وشخصية أيضا؟! بدليل انه في زمن ليس ببعيد كان من quot;غير اللائق أخلاقاquot; أن تخرج المرأة للعمل أو حتى يُسمع صوتها خارج منزلها، وليس من الأخلاق الحميدة أن تنقد الرعية الراعي، وليس من المشروع أن يخالف الابن المتعلم الأب الجاهل!! وليس من الأعراف أن تقود المرأة الرجل!! فالأخلاق عملية صيرورة اجتماعية متغيرة، يبصرها العاقل إن أراد بوضوح دون أن يفرض نوعا متجمدا منها على الآخرين.
ففي الزمن الاجتماعي هناك تغير حتمي في القيم والأعراف. وفرض قيم ثابتة هو أولا تعطيل لدور المواطن السياسي كمواطن ناقد واختزاله في quot;ديموقراطية الأغنام والتابعينquot;. كما أن الانتساب في السياسة هو انتساب إلى الدائرة المدنية التي تقدس الاختلاف، وليس إلى الدائرة القيمية التي تعشق الانصهار. فوحدة الوطن ليست وحدة quot;الطاعةquot;، بل وحدة الاختلاف.
المراد من الضجة كما يبدو هو قتل المشروع الثقافي الذي أصبح يسهل لقطاعات كبيرة من الناس أن تعي ما حولها وتتساءل عما يجري، وتقضي وقتا ترفيهيا مسالما وتسلية ايجابية. ومن الملاحظ أن القيادة السياسية في البحرين أكثر قدرة على تقديم مشروع حضاري حديث مساير لتطلعات المجتمع ممن أراد أن ينصّب نفسه خطأ المرجعية الوحيدة للناس.
لقد اختار النواب المتشددون مجالا لا يوافقهم الكثيرون عليه وقرأوا تطلعات المجتمع بعكس ما يرجونه ويطالبون به، فشكلوا تلك اللجنة التي إن هي سارت في طريق حجر الحريات على الآخرين، فهي تخالف في الصميم ما يفترض أن تدافع عنه، وإن حجرت على الآخرين شيئا ما في القول، لن تجد من يدافع عنها عندما يوقع الحجر عليها!!