عاطف حزين

المريض الذي يصر علي تناول المسكنات طوال ربع قرن دون أن يبحث عن علاج ناجع ليس مريضا وليس متمارضا بل هو raquo;واحد ميتlaquo;. والعدو الذي لم تتمكن من مصادقته طوال ربع قرن فمن المؤكد أن العيب فيك وليس فيه. بعيداً عن حكمة اليوم ونصيحة الغد والألغاز التي تحتمل أكثر من معني اقرأوا معي هذه الدراما السياسية. في حواره الأخير كان سعيداً باشاً لأنه عما قليل سيذهب إلي وادي الراحة ويحتفل بطريقة فريدة تليق بتحقيق الحلم الذي سعي إليه بكافة الطرق المشروعة وغير المشروعة، بالدهاء حينا وبالتنازل غالبا.

لكن فجأة بدا للمذيعة الراحلة همت مصطفي أن ثمة غصة تقف في حلق محدثها الرئيس الراحل أنور السادات. استفسرت سيدة التليفزيون الأولي raquo;في ذلك الوقتlaquo; عما كدر صفو الرئيس فجأة فقال لها بطريقته المسرحية المحببة: raquo;البدو يا همت يا بنتي.. تصوري لما سألوهم عن مشاعرهم بعد عودة سيناء قالوا: والله اليهود راحو والمصريين جم!laquo;. يومها ضحكنا من الطريقة التي وصف بها السادات الموقف دون أن نتنبه إلي شيئين: الأول أن السادات وهو رئيس الجمهورية فوجئ بأن البدو لا يعتبرون أنفسهم مصريين. والثاني: أن المواجهة المقبلة علي أرض سيناء لن تكون مع إسرائيل..

أو علي الأقل في المنظور القريب. تذكرت ذلك الحوار البعيد وأنا أتابع ما يجري علي حدود مصر مع إسرائيل في اليوم الذي تحتفل فيه البلاد بعيد تحرير سيناء.. مواجهة مصرية مع البدو الذين يعتصمون ويهددون بعبور الحدود إلي إسرائيل أو إلي أي دولة أخري بزعم أن الحياة ضاقت بهم في سيناء بعد الظلم والتنكيل والبطش الذي يلاقونه علي يد الشرطة المصرية توقيت مخطط بعناية فائقة لا أبرئ إسرائيل من المشاركة فيه، فالعالم كله ينظر إلي سيناء في هذه الأيام بالذات، ليس بسبب احتفال مصر بعيد سيناء أو لأن زفاف جمال مبارك سيتم في جنوب سيناء ولكن لأن عدداً من زعماء العالم سيشاركون في مؤتمر العراق، وما أسهل في هذه اللحظة ان توحي للعالم بسؤال: كيف تحمي مصر هؤلاء وهي التي تبطش بأصحاب سيناء الأصليين الذين أصبحوا علي استعداد لارتكاب أي جريمة لاسترداد حقوقهم السليبة.

الأكثر من ذلك ان شرطهم الغريب بأن يتعاملوا مع المخابرات والجيش فقط وأن تستبعد وزارة الداخلية من التعامل معهم بالإضافة إلي مطالبتهم بالإفراج عن جميع المعتقلين البدو الذين قبض عليهم بتهمة الإرهاب، كل ذلك يؤكد انه حشد قتال ومواجهة وليس اعتصام مظلومين يطالبون بحقوقهم. ولأن نظامنا الحاكم يدرك حقيقة الأشياء متأخراً وبعد ان تأخذ أبعاداً لا سبيل الي إداركها، وكوارث لا وسيلة متاحة لاحتوائها لجأت الحكومة الي التفاوض مع البدو والاستماع الي طلباتهم وظهر انها ستجيبهم الي معظمها، وأظنهم لن يشبعوا ولن يستكينوا ولن يكفوا عن إصابتنا بالصداع ووضع الحكومة في موقف حرج، لأن هدفهم أكبر وأبعد من مجرد الافراج عن ذويهم. لست ضد الحوار مع البدو الذين ينتمون إلينا ولا يعرفون ألوان علم مصر، ولكنني ضد كل هذا التأخير في الحوار معهم. لم يلتفت أحد إلي raquo;غصةlaquo; السادات منذ أكثر من ربع قرن وبالتالي لم يدرس أحد هؤلاء البدو وكيف يمكن جذبهم إلي حظيرة الوطن وكيف نحول ولاءاتهم من إسرائيل إلي مصر.

لو كنا درسنا هؤلاء البدو دراسة جدية بواسطة علماء في الاجتماع والانثربولوجي والتاريخ والجغرافيا لكان أمامنا عدد من الملفات تؤكد ان خطورتهم علي مصر - البلد وليس النظام - أخطر من الجماعات الإسلامية بأسمائها المختلفة المحظور منها وغير المحظور.. وأخطر حتي من إسرائيل وجواسيسها. لو كنا درسنا مستقبل سيناء بجد كنا سنعرف بالتأكيد ان التسهيلات والرخاء والبغددة التي كان البدو يحصلون عليها أيام الاحتلال الإسرائيلي لن تنسي لمجرد استماعهم إلي أغاني ياسمين الخيام وهاني شاكر وكل المطربين الذين غنوا لتراب سيناء raquo;ورايحين علي أرض الفيروز هنخلي رمل الأرض كنوزlaquo;.

لا أقول بأنه كان يجب علينا أن نوفر لهم ذلك النعيم الإسرائيلي الذي كان يقدم لهم لغرض في نفس يعقوب، فهم ليسوا بأفضل من المصريين الآخرين حتي يتم تمييزهم، بل أقول بأننا لم نحسن تقدير حجم خطورتهم، والنتيجة اننا بصدد جزء من جسدنا استشري فيه المرض ولا ينصح الأطباء بشىء آخر غير البتر. والمأزق اننا لا نستطيع - لاعتبارات كثيرة - التعجيل بعملية البتر فضلاً عن إجرائها من الأساس، والمصيبة ان المرض قد ينتشر في بقية الجسد إذا انتظرنا هكذا بدون علاج ناجح. لقد عهدنا لوزارة الداخلية لكي تتعامل مع البدو كمواطنين مصريين دون أية اعتبارات سياسية أو اجتماعية تتعلق بالوضع الحالي لسيناء التي لم يحدث بها شىء مما تغنت به ياسمين الخيام raquo;هنخلي رمل الأرض كنوزlaquo;.

فعدا القري السياحية ومنتجع شرم الشيخ وجامعة حسن راتب مازالت سيناء فيافي وتلالاً وجبالاً وممرات يرتع فيها البدو كما يحلو لهم. زرعوا المخدرات بكافة أنواعها وهربوا السلاح بكافة أنواعه وفي النهاية صدروا إلينا الإرهاب والإرهابيين. ولا أستطيع أن أجزم بأن الإرهاب - كما يقول البعض - جاء نتيجة للطريقة التي تتعامل بها الشرطة مع هؤلاء البدو لأنني أؤمن بأن بذرة الإرهاب لا تولد في مثل هذا الموقف كنتيجة... بل هي متأصلة في أناس لا يرون في زراعة المخدرات وتهريب السلاح أية مخالفة للقانون. هم - في الأساس - لا يعترفون بقانون مصر ويؤكدون دائما انهم لا يتعاملون إلا بقوانينهم وبأعرافهم التي لا تجرم زراعة المخدرات ولا الإتجار في السلاح. لقد عملت في بداية حياتي محرراً للحوادث بأخبار اليوم ولمست بنفسي احتراق أعصاب رجال الإدارة العامة لمكافحة المخدرات وهم يعدون الحملة تلو الأخري للقضاء علي زراعات المخدرات في سيناء.

ذهبت معهم في أكثر من حملة ورأيت بنفسي الضحايا يتساقطون من ضباط وجنود الشرطة وهم يتبادلون إطلاق النار مع البدو. تصوروا أن هذا يحدث منذ ربع قرن حتي الآن، فلا يتوقف البدو عن زراعة المخدرات ولا يكف رجال مكافحة المخدرات عن حملاتهم! فماذا يعني إصرار مجرم علي مواصلة إجرامه علي مدي ربع قرن؟ يعني ببساطة اعتقاده بأنه يمارس حقه فوق أرضه وأن هؤلاء الذين يداهمونهم بالسيارات وبالطائرات الهليوكوبتر مغتصبون غزاة يريدون ان يحرموهم من الحياة، فماذا أفعل تجاه من يحاول سلب حياتي؟ هل اسلمها له عن طيب خاطر أم أبادله النيران والشاطر اللي يكسب في الآخر. أرجو ألا يقول لي أحدكم بأن الخطأ استفحل بسبب ممارسات الشرطة، فيجب أن نتفق أولاً علي أن الشرطة مجرد raquo;يدlaquo; وليست raquo;دماغlaquo;.. الشرطة هي أداة لتنفيذ أفكار النظام.. الشرطة أداة لتنفيذ القانون سواء في سيناء أو في الاسكندرية أو في حلايب وشلاتين.

أما الحوار مع البدو ومحاولة ترويضم وحصار خطرهم في أضيق نطاق فهذا شغل سياسية لم نمارسه معهم، مع أن عندنا خبراء في هذا الموضوع لكن أحداً من المسئولين الكبار لم يطلب خدماتهم علي اعتبار ان عساكر الأمن المركزي قدها وقدود. عندما سألت الدكتور حسن راتب كيف استطاع الصمود في سيناء وبناء مصنع للاسمنت وقري سياحية وأخيراً جامعة سيناء قال لي الرجل كلاماً كثيراً يؤكد انه فعل كل ذلك بعد ان درس سيكولوجية البدو وتاريخهم وحاضرهم ومداخلهم ومخارجهم وأقنعهم بأنهم شركاء معه وأصدر قراراً بصفته رئيس مجلس أمناء جامعة سيناء الخاصة بأن أبناء البدو سيتعلمون في الجامعة مجانا طالما أن الجامعة تعمل.

لم يقل لهم حسن راتب إنه سيأخذ الأرض بالقانون، وسيبني المصنع رغماً عنهم، وسيشيد الجامعة بدعم من جيش الأمن المركزي مع أنه كان يمكنه عمل كل ذلك مثلما فعلت حكومتنا، لكن لأن راتب درس البدو جيداً نجح فيما فشلت فيه الحكومة حتي الآن. وهذا النجاح والفشل يؤكدان ان هناك بعض العقلاء - ولا أقول الوطنيين - من بين هؤلاء البدو، فالتاريخ يؤكد ان بعض القبائل تدرك ان مصلحتها مع مصر وليس مع إسرائيل، لكن هذا العدد سيظل قليلاً إذا ما قورن بأولئك السادرين في غيهم، والذين يصرون علي فرض ارادتهم علي الحكومة. ومن المؤكد ان هناك بعض الممارسات والتجاوزات الفردية من بعض عناصر الشرطة، كما أن آفة توسيع دائرة الاشتباه بحثاً عن المطلوبين أثارت هؤلاء البدو لاسيما أن توسيع الدائرة اقتضي القبض علي نساء من ذوي الهاربين المطلوبين.

هذا الإجراء الشرطي قد ينجح في الصعيد وفي بحري لكنه قد يشعل ثورة بين البدو وهذا ما حدث. ولعل ما حدث يجعل رجال الشرطة يعيدون حساباتهم ويطبقون مبدأ raquo;لكل مقام مقالlaquo;، فما يصلح في مكان وينجح ليس بالضرورة أن يفلح في مكان آخر. انه تغيير في التكتيل وليس تغييراً في استراتيجية الأمن، بمعني ادق نحن لا نطالب بالتساهل معهم حين يخالفون القانون بل نشتري خاطر زعمائهم ونعلي من قدرهم ونجعلهم هم الذين يطبقون القانون بدون اراقة نقطة دماء.

لقد أخطأنا حين لم نقرأ وندرس البدو.. وأخطأنا حين قبضنا علي نسائهم.. وأخطأنا حين لم نوقر كبرائهم وأخطأنا حين تركناهم لإسرائيل وأخطأنا حين تصورنا أن التعامل بحكمة هو نفسه التعامل بضعف، وأخطأنا حين تركنا كرة الثلج كل هذا الزمن حتي أصبحت أكبر من الهرم. فهل ننتظر حتي تذوب أم نسلط عليها شموس إصرارنا علي ضم هؤلاء الضالين الشاردين الجانحين الي احضاننا.. تعالوا بينا نحاول.


العنوان الأصلي للمقال: quot; ..ولكن جريمتنا أكبر quot;