د. علي محمد فخرو



الولايات المتحدة الأميركية تمارس حروباً مادية ومعنوية ضدُّ أمة العرب. احتلّت العراق بالكذب والتآمر، فتسببت في موت ما يقارب مليون شخص من أبنائه وفي هجرة ثلاثة ملايين من شعبه وفي إفقار نصف عائلاته لحد الفاقة والعيش على أقل من دولار واحد في اليوم. وعندما ترحل عنه، ستتركه جثة جسداً تنخره الصّراعات العرقية والمذهبية والطبقية، ويتحكم بعقله الجنون والضّياع والتخلف.

وفي فلسطين أماتت أميركا روح القضية وأدخلتها في متاهات جزئية صغيرة تفرّخ متاهات أصغر فأصغر، بينما تبتلع الصهيونية الأرض ثم تساوم على الباقي في لعبة شيطانية سريالية. ولا تتردّد أميركا في تجويع شعب فلسطين وحصاره ومحاربته في صحته وتعليمه وأمنه... عقاباً له على انتخاب حركة لا ترضى عنها جماعة اليمين المتطرف داخل البيت الأبيض. وفي كل يوم يموت من يموت من المدنيين في مدن اليباب والدّمار الفلسطينية، فلا تذرف أميركا دمعة واحدة، لكنها تذرف دموعها غزيرة حين يجرح مستوطن صهيوني واحد بصواريخ بدائية تطلقها يد اليأس والإنهاك وقلّة الحيلة. وتصل الهمجية ذروتها في مشهد وصفه مندوب الأمم المتحدة المستقيل لدى اللجنة الرباعية، حين يذكر أنه اعتراه القلق من تفاقم الصّدامات الفلسطينية الداخلية، همس في أذنه المندوب الأميركي مبتسماً وهو يقول: quot;إني أعشق صِداماً وعنفاً كهذينquot;، لنتذكر البطل الروائي quot;هاملتquot; الذي كلما زادت الفواجع كلما اتسعت ابتسامته!

وفي لبنان تمنع أميركا وصول الفرقاء هناك إلى حل وطني وسط، ويهمس سفير عربي في أذن زميل له ناعياً وساطة بلده التي ما إن وصلت مراحلها الإيجابية النهائية حتى أفشلتها أميركا، إمعاناً في إبقاء لبنان منقسماً على نفسه وخاضعاً لهوس تدخل الغرباء. هكذا، وبعد أن منعت في حرب الصيف الماضي أي هدنة لإيقاف القصف الإسرائيلي المدمر، مدة شهر كامل إلى أن أيقنت أن الدمار والموت واليأس قد نخر العظم اللبناني، عادت الآن لمنع تعافيه سياسياً واقتصادياً.

مشاهد فواجع كثيرة كتلك قد عرفها تاريخ البشرية، لكن المحيٍر حقاً هو ردُّ الفعل العربي، وكأن الأمة فقدت احترامها لذاتها. فعقارب ساعة بيع وشراء البضائع والأسلحة الأميركية تدقُ بانتظام، وأعداد الطلبة والسائحين العرب من الذاهبين إلى أرض اللبن والعسل في ازدياد مضطرد، وكبار المسؤولين العرب يحجون إلى مقام البيت الأبيض quot;العتيقquot;، أما مؤسسات المجتمع المدني فنسيت وصف شكسبير للشيطان الذي تقف على أبواب هباته وجزره: إنه ناعم وأكثر من يردد كلمات الإنجيل (والديمقراطية) لكن لمجرد الغواية! وعندما تقوم أميركا بمكافأة رجل متورط في معاناة النساء والأطفال العراقيين، فتعّينه مبعوثاً للسلام بين الضحية الفلسطينية والجلاُّد الصهيوني، نجد بين العرب من يرحب بذلك. ولا تخجل دولة عربية من إجراء مباحثات بشأن تشغيل قطار مشترك من موانئ فلسطين المغتصبة، إلى العراق والخليج، بينما تظل السفارات مفتوحة واللقاءات والمباحثات العبثية مستمرة.

في هذا المشهد الحزين هناك أولاً الفجيعة العربية، وقد تمثلت في قول quot;برنارد شوquot; من أنه كلما زادت الأشياء التي يخجل منها الإنسان كلما أصبح محترماً أكثر. لكن يظهر أن أمة العرب فقدت القدرة على الخجل. وهناك ثانياً فجيعة الولايات المتحدة؛ فبدلاً من أن تأخذ ما قاله رئيسها العظيم أبراهام لنكولن من ضرورة الإيمان بأن الحق هو الذي يصنع القوة، تبنًت قول نيتشيه حول القوة كصانعة للحق، وبذلك سقطت في غطرسة القوة التي تمارسها في طول أرضنا المنكوبة وعرضها.

ما يجري في أرض العرب لا يمكن أن يوصف بدم بارد وقلم هادئ فالخجل من قصور الذات يفجّر الكلمات الغاضبة.