د. خالد الحروب


هناك خطاب جديد وإيجابي تبنته حكومة رئيس الوزراء البريطاني الجديد quot;جوردون براونquot; تجاه الإرهاب الذي يمارسه بعض أفراد الجالية المسلمة في بريطانيا. وهناك خطاب جديد وإيجابي تبنته الجالية المسلمة بشرائحها العريضة ضد ذلك الإرهاب. الخطابان جاءا في أعقاب المحاولة البشعة والفاشلة لتفجير سيارات في قلب لندن وفي أكثر مناطقها إزدحاماً, والمحاولة الأبشع لاقتحام مطار جلاسكو بسيارة أخرى تحمل مواد متفجرة. من حسن حظ المسلمين البريطانيين أن تلك السيارات لم تنفجر ولم يسقط ضحايا, ولو حدث وأن أنفجرت بالفعل أيٌ من تلك السيارات، فإن الضحايا ربما كانوا بالعشرات بل بالمئات. وكان ذلك كفيل بتعقيد أوضاع المسلمين وبخلق مزيد من تيارات العداء والعنصرية ضدهم بشكل كبير.

خطاب حكومة براون, سواء في تصريحاته شخصياً أو تصريحات وزيرة الداخلية أو بقية الناطقين باسم الحكومة، يقطع تماماً مع خطاب توني بلير quot;البوشويquot; ونزقه في إطلاق التصريحات التي كانت تثير أكثر مما تهدىء. براون حصر الفعل الإجرامي بفاعليه ووضعه في حدوده الضيقة ولم يوسع quot;التنظيرquot; حوله ليربطه بـquot;حرب القيمquot; أو quot;الحرب على الحضارة الغربية والديمقراطيةquot;، ولم يركز على هوية وثقافة ودين المجرمين. وأعتبرهم تهديداً لكل مكونات وجاليات المجتمع البريطاني وبالتالي لم يستثر عموم الجالية المسلمة ويدفع بعضاً منها لتبني مواقف quot;متفهمةquot; لمثل هذا الإجرام أو متلكئة في إدانته. وقد لقي هذا الخطاب، وكذلك السياسة الأمنية البريطانية الجديدة، ترحيباً غير مسبوق في أوساط الجالية, والتي لاحظ زعماؤها ما يحمله التوجه الجديد من روية وعقلانية.

خطاب الجالية المسلمة بدوره تخلص من quot;اللاكنquot; والتلعثم الذي كان يشوش على الإدانة الصريحة والمطلوبة لكل عمل إرهابي يستهدف المدنيين في بريطانيا. quot;مجلس مسلمي بريطانياquot;, أحد أهم الأصوات المعبرة عن الجالية المسلمة والذي يمثل حوالي 500 منظمة إسلامية, أدان المحاولات الإرهابية من دون تردد, ونظم عدة لقاءات ومؤتمرات هدفت إلى إعلاء صوت الغالبية الصامتة من المسلمين في بريطانيا والذين يعيشون حياة عادية ومندمجة في المجتمع البريطاني. ونقلت وسائل الإعلام البريطانية استضافة المركز الثقافي الإسلامي في لندن لقاءً موسعاً لممثلي الجالية دُعي له قادة الشرطة البريطانيون. ونُقل عن رئيس quot;منظمة العلماء المسلمين في بريطانياquot;، مفتي إسماعيل، قوله إن quot;بريطانيا هي وطننا ومصالحها هي مصالحنا ويجب على المسلمين تقديم كل الدعم والمساعدة لأجهزة الأمن التي تعمل على ضمان سلامتهم وأمنهمquot;.

ثم نشرت الجالية المسلمة إعلاناً مهماً في وسائل الإعلام البريطانية، تحت عنوان quot;مسلمو بريطانيا متحدون في إدانة محاولات التفجير في لندن وجلاسكوquot;. وقال الإعلان الذي احتل صفحة كاملة، إن المسلمين البريطانيين يتنصلون من تلك الأفعال وممن يقوم بها, ويؤكدون على ضرورة عدم تحميل عموم المسلمين مسؤولية الأفعال البشعة التي يقوم بها أفراد مجرمون. كما شكر الإعلان حكومة براون على تعاملها العقلاني وغير المتوتر مع الأحداث وتفريق الحكومة الجلي والمثمر بين أولئك الأفراد والغالبية الكاسحة من المسلمين الذين يعيشون حياة مسالمة في بريطانيا.

انعكس الخطابان على الإعلام البريطاني الذي التقط العناصر الجديدة عند الطرفين, الحكومة والجالية المسلمة, وقارنها بعناصر الخطاب quot;البليريquot; في المرحلة السابقة. ومما لا شك فيه أن هذا التطور المتبادل في اللغة المُتبناة تجاه مثل هذه الأفعال، سيساعد تدريجياً على تنفيس الاحتقان والتوتر الذي غلف الأجواء البريطانية منذ تفجيرات لندن قبل سنتين.

لا يعني ذلك أن الأجواء تغيرت كلياً، لكن من المؤكد أن هناك بداية مشجعة تتجه بالأمور نحو مسار جديد وإيجابي. وتحتاج هذه البداية إلى تعزيزها، في الممارسة والخطاب، من قبل الحكومة أولاً لأن أي تغير تتبناه يجد انعكاساً مباشراً له في أوساط الجالية المسلمة. وثانياً يحتاج المسلمون إلى ترسيخ الخطاب الجديد الذي ينظر إلى بريطانيا كوطن لهم يعيشون فيه ويمارسون حقوقهم وشعائرهم وواجباتهم كبقية الشرائح الأخرى. ويحتاج المسلمون إلى تنظير جريء وعميق ينبع من تجربتهم التاريخية في هذا البلد، يعزز من انتمائهم له والشعور بأنهم ليسوا ضيوفاً فيه أو عابري سبيل ينتظرون يوم المغادرة.

ولعل هناك ما يمكن وصفه بـquot;سيكولوجيا الانتظار والترقبquot;، هي التي تشل قدرة شرائح واسعة من المسلمين على التفاعل مع المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها. وهذه السيكولوجيا تعني أنهم لم يحسموا أمرهم بعد فيما إن كانوا يريدون البقاء بشكل دائم في البلدان الغربية أم العودة إلى بلدانهم الأصلية. وعدم الحسم هذا يسبب انشطارات وجدانية وفقداناً للانتماء في أوساطهم، مما يحول بينهم وبين الاندماج. والغريب أن هذه السيكولوجيا لا ينحصر وجودها في المجموعات المهاجرة حديثاً إلى بريطانيا وبقية الدول الغربية, بل تمتد لتشمل الجيلين الأول والثاني من المهاجرين، أي أولئك الذين ولدوا في الغرب. إذ تجد شرائح من الباكستان أو بنغلاديش أو الهند, أو بعض قدامى المهاجرين العرب, يرددون نيتهم quot;العودةquot; إلى أوطانهم التي لم يعرفوها أصلاً بحكم ولادتهم في بريطانيا.

على جانب الحكومة البريطانية، هناك مؤشرات جديدة تفيد بأن التأسي بممارسة النعامة ودفن رؤوس السياسات الخارجية في رمال الإنكار والوهم، ما عادت تجلب سوى مزيد من التوتر مع الجالية المسلمة. ذاك أن أثر السياسة البريطانية الخارجية إزاء قضايا تعني المسلمين، وخاصة في فلسطين والعراق وأفغانستان، على تنمية التيارات الراديكالية في أوساط مسلمي بريطانيا، لا ينكره عاقل.

والاعتراف بأثر السياسة الخارجية من المفترض أن تترتب عليه لغة تصالحية جديدة من جهة, ودفع باتجاه تغيير تلك السياسات من جهة أخرى وهو الأهم. ومرة أخرى من المفيد الانتباه إلى أن توجهات براون بعد تسلمه المسؤولية تشير إلى أنه يريد أن ينتهي من إرث بلير ويرسم سياسة جديدة. وفي هذا السياق أتخذ عدة قرارات منها إعادة قرار إعلان الحرب إلى البرلمان بعد أن كان سلفه قد جعله بيد الحكومة. وهذا القرار بحد ذاته إشارة مبطنة إلى أن قرار المشاركة في حرب العراق الذي أتخذه بلير هو موضع شك, وهذا يبعث قدراً من الارتياح في أوساط المسلمين ومناهضي الحرب عامة. لكن يبقى أمام الحكومة البريطانية الجديدة مشوار طويل إن أرادت التخلص من الخراب الذي لحق ببريطانيا وبالشرق الأوسط جراء الحقبة البليرية- البوشية سيئة الصيت. كما يبقى أمام مسلميها مشوار أطول لتأكيد انتمائهم ومواطنتهم لهذا البلد.