يوسف مكي
يطرح الإعلام العربي الرسمي جملة من الهواجس، يعزى لها السبب في تلكؤ الحكومات العربية في قبول فكرة المضي بتحقيق الإصلاح السياسي ببلدانها. أول هذه الهواجس، أنه ربما كانت لدى معظم القادة العرب خشية من أن مطالب الإصلاح السياسي ما هي إلا أقنعة، يختفي خلفها الطامعون بالتسلق إلى السلطة، وأنها والحال هذه، ldquo;كلمة حق يراد بها باطلrdquo;. وثاني هذه الهواجس، أن مشروع الإصلاح السياسي لم يطرح بحدة، في البلدان العربية، إلا بعد أن أصبحت المنطقة مكشوفة، وغدت التهديدات الخارجية، وبخاصة تهديدات الولايات المتحدة الأمريكية للأمن القومي العربي والوحدة الوطنية، أمراً واقعاً ومحققاً، بعد أن رأى الزعماء العرب بأم أعينهم الطريقة التي تم بها احتلال العراق. ومن هنا تبدو الضغوط الداخلية باتجاه إطلاق الحريات السياسية وتدشين مؤسسات المجتمع الأهلي/ المدني واستكمال البنية الديمقراطية والدستورية، وما إلى ذلك من مشاريع، وكأنها متماهية مع مخططات العدوان والتفتيت الأمريكية. وللتدليل على وجاهة هذا الهاجس، تطرح حالة الانفصام والقطيعة بين المثقف والجمهور. فهذا المثقف ليس معنياً البتة بمصالح الناس، بل يطرح مشروع الإصلاح لغاية ldquo;في نفس يعقوبrdquo;، ليست لها علاقة بسلامة الوطن ووحدته، ولا بتطوير النظام السياسي فيه والارتقاء به إلى حالة متجانسة مع روح العصر والتحولات الهائلة التي تجري في العالم من حولنا.
تلك كانت خلاصة النقاط التي يطرحها الإعلام العربي الرسمي، في بعض الأقطار، علها هي ذات النقاط التي تدور حولها هواجس القادة العرب.
والواقع أن القراءة المعمقة لهذه الهواجس، لا تشي بوجود أي ثقل اعتباري خلفها، وبالتالي فليس لهذه المخاوف ما يبررها. فالنخب المثقفة في الوطن العربي، هي لسوء الحظ، الأقل حضوراً في الجانب السياسي. وتاريخها في الوطن العربي لا يكشف عن نوايا أو مخططات تآمرية للوصول إلى السلطة. وخلال أكثر من نصف قرن مضى، كانت خلايا التخطيط للانقلابات تنطلق من الثكنات العسكرية، وليس من المراكز الأدبية والثقافية، رغم أن حمَلة أفكار التنوير كانوا الأكثر عرضة للمطاردات والاضطهاد والقمع. ومع التسليم بأن التحسب في كل الأحوال عمل مشروع، فإن المنطقي أن يتركز على القوى التي تعمل في الظلام، والغدر في الموروث الإنساني طبيعته الطعن من الخلف وليس المواجهة.
ومن المعروف أن الذين طالبوا ويطالبون بالإصلاح في التاريخ الحديث كانوا دائما يعملون في الهواء الطلق ووضح النهار، وأن برامجهم كانت باستمرار مكشوفة وواضحة المعالم. حدث ذلك في كل عهد وفي كل مكان رفعت فيه رايات الإصلاح السياسي عالية. كان ذلك واضحاً في دعوة الشيخ جمال الدين الأفغاني إلى الوحدة وإزالة الفروق بين المذاهب الإسلامية، وتحرير العقل من الخرافات والأوهام، ودعم العقائد بالأدلة والبراهين، والتخلص من قيود التقليد وفتح أبواب الاجتهاد. وحدث ذلك أيضا مع الشيخ محمد عبده، وهو يجاهد ضد الاستبداد، ويطالب المسلمين بالوقوف في وجه الاستعمار. وقد تبعهم في هذا النهج محمد فريد وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد والشيخ طاهر الجزائري والشيخ حسين الجسر ومحمد علي كرد وعبد الحميد الزهاوي ومحمد رشيد رضا والأمير شكيب أرسلان ومحمد بيرم التونسي والطاهر بن عاشور ورفاعة رافع الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي، وكثير غيرهم ممن تصدوا للحكم المطلق واعتبروا الاستبداد أساس المساوئ.
كان هؤلاء الأفذاذ يواجهون بأقلامهم الحرة حالة الخلل في مجتمعاتهم داعين إلى إعادة بنائها على أسس صحيحة، وكانوا يعلنون عن برامجهم ومشاريعهم في رابعة النهار. وقد استمر الوضع على حاله حتى يومنا هذا بين دعاة التنوير والإصلاح السياسي. لم يلجأ أي منهم إلى انتهاج وسائل تضر بالسلم الاجتماعي أو تؤثر في استقرار الأمن في أوطانهم، وكان خيارهم المجادلة بالتي هي أحسن. وتلك مزية يجب أن تحسب لعناصر الإصلاح والتنوير في معظم البلدان العربية.
بل لعلنا نجادل بما يناقض هذا الهاجس، بالقول إن مشروعية أي نظام سياسي تغدو موضع شك وتساؤل، حين تحدث حالات احتقان شديدة، وحين يعجز عن الدفاع عن الأرض والسيادة. وطريق الإصلاح السياسي، والتسليم بحقوق الناس، والتوجه المباشر نحو صياغة علاقات تعاقدية هو الذي يؤمن الوحدة الوطنية ويخلق جسراً فولاذياً في وجه التهديدات والتحديات الخارجية، ويجعل من البلدان العربية قلعة عصية على الاختراق.
أما القول إن مشاريع الإصلاح لم تطرح بحدة إلا بعد استعار الهجمة الأمريكية على المنطقة العربية، فهو بالإضافة إلى أنه قول غير دقيق، لأن مشاريع التنوير كانت قائمة في البلدان العربية منذ أكثر من نصف قرن، فإن ذلك حتى وإن كان صحيحاً، لا يصح أن توضع عليه علامة استفهام، ذلك لأن القوى الحية تستنهض طاقاتها وإمكاناتها في الأزمات وحين تتعرض مجتمعاتها للمخاطر. وإذا لم تكن النخب الثقافية والعناصر المستنيرة بالمقدمة في الدفاع عن الوطن وكرامته ومستقبله، فمن يكون إذن؟ إن ما يتعرض له وطننا العربي، من تهديدات واستفزازات تفرض على الجميع المشاركة في عملية المواجهة، كل من موقعه وحسب اختصاصه. وطبيعي جدا في هذا الصدد أن يكون صوت المثقف عالياً ومدوياً، من أجل السير بالعملية الإصلاحية وحماية الوطن، ليس فقط من باب سد الذرائع، ولكن لأن تلك كانت وما زالت استحقاقات مؤجلة، حان موعد تقديمها، ولأنها أيضاً السبيل لخلق مجتمع قوي قادر على حماية الوطن، ومواجهة قوى الشر والعدوان.
ومن جهة أخرى، ينبغي التذكير، بأن قيم الإصلاح السياسي، ليست احتكاراً أو صناعة أمريكية، بل حاصل تراكم إنساني وتجارب طويلة ومريرة، وهي بالتالي قيم إنسانية نبيلة، لا تملكها أية جهة، وليست لها جنسية خاصة. ومن هنا فإن تثبيتها هو تحصين للبلاد بثروة أخلاقية، تكون تجلياتها أوضح ما تكون حين تستنفر طاقات الأمة ومخزونها الحضاري.. وكانت هذه القيم حاضرة بجلاء في تاريخنا العربي، ومواريثنا الدينية العظيمة.
أما وصم العلاقة بين المثقف والجمهور بالانفصام والقطيعة، فإنه يغيب ابتداء طبيعة المطالب التي تنادي بها النخب المثقفة، وهو قول يتداعى عند قراءة برامج الإصلاح السياسي التي تطالب بها تلك النخب. أوليس من مصلحة المجتمع ككل، قيادات وشعوباً أن تكون علاقة الواجبات والاستحقاقات واضحة المعالم للجميع، وأن يتم الفصل بين السلطات، والاعتراف بالتعددية واحترام الرأي والرأي الآخر، وانبثاق سلطات تشريعية وأن يكون المواطن والحاكم على السواء ملزمين بعلاقات تعاقدية فيما بينها؟ وتتتالى الأسئلة، أليس تطوير التعليم وتحسين الأوضاع الصحية وبناء مجتمع سليم سوف تصب في مصلحة الكل؟ وإذا ما اكتمل بناء مؤسسات المجتمع المدني، أوليس ذلك في مصلحة العامل والفلاح والصحافي والفنان والكاتب، وجميع خلايا وأفراد المجتمع؟
اعترف بأن العلاقة بين المثقف والجمهور لم تكن في حالة توافق دائم، ذلك أن النخبة المثقفة انقسمت على ذاتها، فمنها من اتجه مباشرة نحو الاهتمام بمصلحته الخاصة وانكفأ عن الشأن العام، واضعا نفسه سمساراً ومساهماً في صفقات تجارية احتيالية، ومنهم من أصر على التمسك بثوابته الوطنية والأخلاقية، رغم أن ذلك قد وضع الكثير منهم على حافة الفقر، وعرضهم للملاحقة.. وأكثر من ذلك بكثير، فقد كانت سلطات الأمن العربية بارعة جدا في اجتثاث مشاريع الإصلاح عند منابعها، مما عطل إمكانية نشوء حراك اجتماعي مثمر، وغيب على الأمة والوطن إمكانية الاستفادة من المزاوجة بين طاقات وإبداعات المثقف والمفكر والفنان من جهة، وعموم فئات الشعب من جهة أخرى.
ليس هناك من حل عملي وواقعي لدرء العدوان والنهوض بالمجتمع وتمتين الجبهة الداخلية وبناء الوحدة الوطنية، سوى تحقيق التفاعل بين الذاتي والموضوعي، وتحقيق مصالحة كبرى شاملة، تأخذ في الاعتبار جميع الاستحقاقات المؤجلة، وتعيد صياغة العلاقات المجتمعية على أسس قوية وصحيحة، وتلك هي المقدمة لإصلاح الوضع العربي بأسره وتحقيق اللحمة بين أفراد الأمة، حكاماً ومحكومين
.
التعليقات