عبدالوهاب الأفندي
(1) أثناء إلقاء أحد الدروس في الجامعة سألت طلابي: 'حين ما يسمع المرء منكم تعبير 'الإسلام والحداثة' ما هو أول ما يخطر على باله؟' أجاب طالب أمريكي من بين الحضور بدون تردد: 'دبي'.
(2)
لا بد أن أسجل ابتداءً أنني مثل كثيرين غيري في العالم العربي وخارجه من المعجبين بتجربة دبي في الانفتاح الاقتصادي والبراغماتية المنهجية، وأرتاح كثيراً لزيارتها لأنها مدينة مريحة ومنفتحة ترحب بزوارها وتخلو من أي عقد تجاه الأجانب. ولنا بالطبع كما لأهل البلاد تحفظاتهم على ما يجري هناك، ولكن هذا لا ينفي أن دبي تظل من أقل المدن العربية مشاكل وأكثرها نفعاً لسكانها وزوارها معاً.
(3)
ولكن هناك نقطة تتحول عندها التحفظات إلى ما هو أبعد من ذلك، وقد وصلت هذه النقطة وأنا أتابع الشهر الماضي خبر افتتاح الفندق المسمى 'أتلانتيس' الذي بناه على جزيرة النخيل الاصطناعية الملياردير الجنوب افريقي سول كيرزنر بالاشتراك مع شركة نخيل المملوكة للإمارة. فقد تكلف بناء الفندق مليار ونصف المليار دولار كما صرف على حفل افتتاحه عشرين مليون دولار، وفاق ما صرف على الألعاب النارية فقط ما صرف على مثلها في افتتاح وختام أولمبياد بكين.
(4)
بحسب ما أوردته التقارير فإن تكلفة الإقامة في أفخم جناح في الفندق تصل إلى خمسة وثلاثين ألف دولار لليلة الواحدة. ويقوم الفندق ذو الألف وخمسمائة غرفة والمنتجع الملحق به على مساحة ستة وأربعين هكتاراً، وبه حوض أسماك في داخله خمسة وستون ألف كائن بحري من بينها سمك قرش تم إنقاذه من على الساحل في وقت سابق من هذا العام.
(5)
يبدو أن نزعة دبي إلى الغلو في الترف لم تبلغ مداها بعد. فحالياً تقوم مجموعة فرساشي المعروفة للأزياء ببناء فندق جديد (بالازو فرساشي) يتميز بأن حمام السباحة فيه ورمال الشاطئ مبردة اصطناعياً، حيث تم وضع أنابيب تحت الأرض على الشاطئ حتى تحتفظ برماله باردة لدرجة تسمح للسياح بالنوم والمشي عليها حتى في عز الظهيرة.
(6)
ولم يتخلف منافسو فرساشي في عالم الموضة عن هذا الحفل، حيث أن أرماني يبني بدوره فندقاً باسمه، ويعرض كذلك 144 شقة في البرج للبيع بسعر يبدأ من ثلاثة ملايين دولار للشقة الواحدة . وبدورهم يعرض أصحاب (بالازو فرساشي) مساكن للبيع في منتجعهم يحتوي بعضها على دار سينما وسونا وبسعر سبعة ملايين دولار فقط لا غير للفيلا الواحدة. أما إذا كنت من المعسرين فإن شقق لاغرفيلد التي استوحي تصميمها من شعار 'شانيل' تكلف ثلاثة ملايين دولار فقط. وبالنسبة للفقراء فعلاً فإن نصيحتها لهم هي الاكتفاء بشقق فندي التي تبدأ أسعارها من مليون ونصف مليون دولار!
(7)
حتى الآن فإن الاعتراضات الخافتة على هذا الترف المقرف جاءت فقط من أنصار البيئة الذين اعترضوا على ما تصرفه هذه المشاريع، خاصة مشروع تبريد الشاطئ، من طاقة في وقت يهدد فيه الاحتباس الحراري مستقبل الكوكب. وهناك أيضاً احتجاج من أنصار الحيوان على استمرار حبس سمك القرش الصغير 'سامي'. وقد علق بعض خبراء البيئة بالقول بأن دبي من أكثر مناطق العالم المهددة بشح المياه، بينما يزيد معدل استهلاك المياه فيها ثلاث مرات عن المعدل العالمي، مما يجعل التوسع في البناء فيها محفوفاً بالمخاطر حتى وإن لم يكن مغرقاً في الترف.
(8)
على ما أذكر ـ وبعض الظن إثم- فإن سكان دبي (الأصليين على الأقل) من أهل ملة الإسلام. ولكنا حتى الآن لم نسمع منهم ولا من غيرهم من المسلمين رأياً حول هذا التوجه المقلق نحو الترف المهلك في وقت تقتل الحاجة فيه المسلمين حتى في أطراف (إن لم يكن قلب) جزيرة العرب. ولا شك أن الله تعالى سائل من ولغوا في هذا الترف عن هذه الأموال، من أين اكتسبوها وفيم أنفقوها.
(9)
أصحاب الفندق المذكور اختاروا له اسماً مستوحى من جزيرة (أتلانتيس) التي تقول الأسطورة أنها غرقت بمن فيها واختفت من على وجه الكرة الأرضية في طرفة عين. ونحن نقترح على بناة الفندق القادم في منتجع الترف المفرط في دبي إطلاق إسم 'إرم ذات العماد' عليه، فإنه اسم 'شيك' وملائم ومستوحى من التراث، مما يجعله يجمع بالفعل بين التراث والحداثة.
- آخر تحديث :
التعليقات