هبة محمد عبدالعزيز
لاشك في أن منطقة الخليج تعدّ من المناطق التي تحظى بالعديد من الميزات سواء السياسية أو الاقتصادية أو حتى الاستراتيجية، الأمر الذي جعلها محط اهتمام الكثير من القوى العالمية والإقليمية، ليس فقط لأنها تمتلك مخزون النفط والغاز الأكبر ما يجعل مستقبل إمدادات الطاقة مرهوناً بضمان أمنها واستقرارها، ولكن لتمتعها بموقع جيوبوليتيكي مهم للغاية يتوسط القوى الإقليمية المؤثرة في المنطقة (مصر، العراق، إيران وتركيا).
رؤية مشتركة ومصالح متقاطعة
يضاف إلى ذلك امتلاك دول الخليج أسواقاً واسعة وواعدة نظراً لكونها منطقة (ترانزيت) تجارية بين أسواق دول جنوب آسيا والأسواق الأوروبية، ثم ما أضافته كل من حربي الخليج الثانية والثالثة عامي (1990-2003) للمنطقة من أهمية استراتيجية خاصة، لما أعقب هاتين الحربين من متغيرات استراتيجية في ميزان القوى الإقليمية وبروز منطقة الخليج كمسرح لتلك المتغيرات، بشكل جعلها صاحبة دور مركزي ومؤثر في تشكيل السياسات الاستراتيجية والاقتصادية للقوى العالمية الإقليمية المحيطة بها وعلى رأسها (إسرائيل)، والقوى العالمية من خارج المنطقة ولاسيما الولايات المتحدة.
كل ذلك جعل من منطقة الخليج محط اهتمام إقليمي وآخر عالمي، إذ يتقاطعان مع مجموعة من العوامل المتداخلة والمعقدة المتعلقة بأمن الطاقة والإرهاب وانتشار الأسلحة والنزاعات الحدودية والتنمية السياسية والتعليم وحقوق الإنسان. وما يجعل المسألة أكثر تعقيداً في الوقت نفسه هو التفاعل المباشر بين الأطراف الإقليمية الفاعلة في المنطقة (دول مجلس التعاون الخليجي الست وإيران والعراق واليمن) ودول الجوار (أفغانستان وباكستان والهند وسوريا وتركيا وإسرائيل والصومال) والمجتمع الدولي الأوسع (الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وبشكل متزايد أيضاً بعض البلدان الآسيوية كالصين والهند واليابان).
بدأ انعكاس أهمية منطقة الخليج بالنسبة للولايات المتحدة يظهر بشكل جلي منذ فترة الستينيات، وذلك في بروز نظرية (ملء الفراغ) التي بدأت بمبدأ الرئيس نيكسون في توكيل شاه إيران السابق في القيام بدور الشرطي لحساب الولايات المتحدة الأميركية في الخليج العربي، ومروراً بمبدأ جيمي كارتر الذي أعلن استعداد الولايات المتحدة للتدخل المسلح السريع لضمان أمن الخليج بعد سقوط نظام الشاه في طهران، وهو المبدأ نفسه الذي استمر عليه رؤساء البيت الأبيض من رونالد ريغان إلى بوش الأب وكلينتون ثم جورج بوش الابن. فكل منهم ظل ملتزماً بهذا المبدأ.
وعليه، بنت الولايات المتحدة الأميركية أسس استراتيجيتها في منطقة الخليج على المحددات التالية:
{ اعتبار التهديد السوفييتي قبل التسعينيات من القرن الماضي مصدر الخطر الرئيسي لمصالح دول الخليج وللمصالح الأميركية.
{ تأمين منابع البترول، وضمان استمرار تدفق إمداداته إلى الولايات المتحدة الأميركية من دون انقطاع عن طريق اللجوء إلى استخدام القوة المسلحة كما هو حاصل الآن بعد احتلال العراق.
{ العمل على توجيه عائدات البترول التي تحصل عليها دول الخليج، لكي يتم استثمارها في الولايات المتحدة دون غيرها من بلدان العالم.
{ العمل على ضمان استمرار جيوش المنطقة في شراء السلاح الأميركي والاعتماد عليه، على أساس أن اعتماد الجيوش الخليجية على السلاح الأميركي من شأنه أن يجعل من صناعة الأسلحة الأميركية قوة ضاغطة عند اللزوم، فضلاً عن الأرباح الطائلة التي تجنيها الصناعة الحربية من وراء بيع الصفقات المختلفة.
أمن إسرائيل ومجلس التعاون الخليجي
ومن هنا تتضح أبعاد الصورة كاملة في ما يتعلق بالعلاقات الأميركية - الخليجية.. فأمن الخليج في رأي واشنطن، يعني الحفاظ على مصالحها في المنطقة وعلى رأسها ضمان استمرار تدفق البترول واستثمار عائداته والاستفادة من الموقع الاستراتيجي المهم.
وبالنسبة لإسرائيل فالأهمية الكبرى لمنطقة الخليج تنبع بالأساس من كون المنطقة تمثل الطوق الثالث من أطواق النظرية الأمنية الإسرائيلية، القائلة بأن هناك ثلاثة أطواق أمنية تحيط بها، هي: -1 الأراضي الفلسطينية المحتلة. -2دول المواجهة العربية (مصر، الأردن، سوريا ولبنان).
3 - الدول المحاذية لدول المواجهة ومن أهمها دول مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى كون دول الخليج تضم جالية فلسطينية ضخمة لا تقل عن ثلاثة أرباع مليون نسمة، خرجت من بينها تنظيمات فلسطينية تبنت المقاومة ضد إسرائيل، كان من أبرزها حركة (فتح) التي شهد النصف الأخير من عام 1975 الولادة الحقيقية لها، وذلك بالإعلان عن الاجتماع التأسيسي الأول للحركة في الكويت، بشكل جعل من الطبيعي أن يثير التحرك الإسرائيلي تجاه دول مجلس التعاون الخليجي منذ عام 1991 الانتباه، أي في أعقاب حرب الخليج الثانية، وذلك بعد أن استغلت تل أبيب المتغيرات العالمية والدولية لصالح هذا التحرك، إثر انتهاء مرحلة القطب السوفييتي من على الساحة الدولية ثم حرب الخليج الثالثة عام 2003، وانتشار مفاهيم العولمة والدفاع عن حقوق الإنسان وتفعيل قيم ومفاهيم الديمقراطية والخصخصة والانتشار المذهل لأجهزة الاتصالات ووسائل الإعلام، وانطلاقاً من ذلك جاء التحرك الإسرائيلي تجاه دول الخليج بهدف النفاذ إلى عمقها وجعلها بمثابة سياج أمني خاضع لسيطرتها سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر.
وبشكل عام يمكن تلخيص أبعاد التحرك الإسرائيلي تجاه دول مجلس التعاون الخليجي في ثلاثة أبعاد، هي:
-1 الأبعاد السياسية وتتمثل في إعداد الأبحاث والدراسات السياسية الإسرائيلية الخاصة بمنطقة الخليج وخاصة المملكة العربية السعودية.
-2 الأبعاد الاقتصادية وتتمحور حول إنشاء سوق شرق أوسطية مشتركة تلعب فيها دول الخليج دوراً مركزياً.
-3 الأبعاد العسكرية وتبلورت في طرح تل أبيب أكثر من مرة خططاً للتدخل العسكري في منطقة الخليج إذا ما اقتضت الضرورة ذلك، ومن أبرز هذه الخطط، الخطة التي وضعت عام 1957 الهادفة للاستيلاء على مناطق مجاورة لقناة السويس ونهر الليطاني وجنوب لبنان والخليج العربي وصحراء النقب وجزيرة تيران وصنافير والعقبة وجبال موآب وشوفر وصحراء تيفون، وصحراء تدمر والضفة الغربية لنهر الأردن.
إن كل ما سبق يعكس وجود رؤية مشتركة بين كل من واشنطن وتل أبيب حول أهمية منطقة الخليج وأهمية مد جسور علاقات قوية ومباشرة معها سواء بطرق جلية وواضحة من قبل الولايات المتحدة أو بطرق خفية وغير مباشرة من قبل إسرائيل، إذ ترى كل منهماndash; أي إسرائيل والولايات المتحدةndash; في تطور العلاقات مع هذه المنطقة هدفاً مشتركاً، وأمراً من الممكن أن يخدم مصالح الطرفين سواء السياسية أو الاستراتيجية أو حتى الاقتصادية.
الخلل الاستراتيجي ومساعي تطويعه
مثلت حرب الخليج الثانية عام 1990 بالنسبة لإسرائيل في علاقاتها مع الولايات المتحدة انقلاباً استراتيجياً خطيراً، إذ إن فلسفة العلاقة التي تربط واشنطن بتل أبيب تقوم بالأساس على كون إسرائيل صاحبة وظيفة محددة وهي حماية مصالح القوى الكبرى في المنطقة وعلى رأسها الولايات المتحدة، بصفة إسرائيل كياناً استعمارياً من نوع مختلف، مهمته إضعاف دول المنطقة ونهب ثرواتها، إلا أن التحالف الأميركي- الخليجي الذي برز واضحاً عقب حرب الخليج الثانية قلل بشكل كبير للغاية من القيمة الوظيفية لإسرائيل بالنسبة لواشنطن، والذي برز في منع واشنطن إسرائيل من اتخاذ أي رد عسكري حينما تم قصفها عراقياً بالصواريخ إبان الحرب على الرغم من أن ذلك يتنافى تماماً مع العقيدة القتالية الإسرائيلية، حيث رأت الولايات المتحدة حينها أن ذلك لن يخدم مصالحها الكبرى التي تهدف إلى تحقيقها في المنطقة، حتى لو جاء ذلك على حساب علاقتها الاستراتيجية التاريخية مع حليفتها الرئيسية في المنطقة (إسرائيل)؛ الأمر الذي دفع إسرائيل بشكل قوي للسعي إلى إثبات أنها الحارس الأمين لمصالح واشنطن في المنطقة، وبالتالي نجد أن إسرائيل سعت للمزاوجة أو الموازنة بين الوجود العسكري الأميركي في الخليج وتعميق العلاقات السياسية والاقتصادية مع الولايات المتحدة واستغلالها لتسهيل المحاولات الإسرائيلية الدائمة للتقارب مع دول منطقة الخليج؛ إذ اندفعت إسرائيل بشدة نحو محاولة اختراق الدول الخليجية اقتصادياً، معتمدة في ذلك على الابتزاز السياسي لها عن طريق تصوير أنهاndash; أي إسرائيل- من الممكن أن تقدم تنازلات في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية يمكن من خلالها إقرار السلام مقابل التطبيع مع كل الدول العربية، محاولة تحريض واشنطن على مساعدتها في ذلك، وإقناعها بأنه يأتي في صالحها لعدم احتكار أي طرف في المنطقة للتفوق الاقتصادي؛ وبرز ذلك واضحاً عقب تنفيذ خطة فك الارتباط الإسرائيلية 2005؛ حيث طالبت إسرائيل الولايات المتحدة بأن يكون مقابل ذلك هو تسهيل عملية التطبيع مع كل الدول العربية وفي مقدمتها الدول الخليجية التي تمتلك أسواقاً واعدة، وتم التعبير إسرائيلياً عن ذلك بشكل واضح في تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي السابق سلفان شالوم الذي أكد أن 9 دول عربية على الأقل ستسارع إلى التطبيع مع تل أبيب عقب تنفيذ الخطة، الأمر الذي لم يحدث على الإطلاق.
ومن ناحية أخرى، سعت إسرائيل منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003 إلى محاولة تقديم خدمات غير مباشرة أو غير ظاهرة للولايات المتحدة، وذلك لعلم كل من واشنطن وتل أبيب التام بأن تدخلهما المشترك والمباشر عسكرياً في منطقة الخليج سيكون له الكثير من الآثار السلبية أكثر من آثاره الإيجابية. من هنا يمكن القول إن الرؤية الإسرائيلية لتطور العلاقات الأميركية-الخليجية التي وصلت في مرحلة من المراحل إلى درجة (التحالف)، حكمتها نظرية تتعلق بالأساس بالقيمة الوظيفية لإسرائيل كأداة للاستعمار بالنسبة للولايات المتحدة كدولة كبرى؛ وبالتالي حاولت تل أبيب تطويع أي خلل قد ينشأ في هذه العلاقة الاستراتيجية نتيجة لوجود مصالح مشتركة بين الولايات المتحدة والدول الخليجية تستتبع تنامي علاقات شراكة قوية، اعتبرتها إسرائيل خطراً استراتيجياً من نوع مختلف، من الممكن أن يأتي على حساب علاقة التحالف القوية التي تربط إسرائيل بالولايات المتحدة.
التعليقات