جلال أمين

منذ ستين عاما بالضبط أتم جورج أورويل (الكاتب البريطاني الشهير) كتابة روايته الشهيرة أيضا، ذات العنوان غير المألوف (1984). فلا أعرف رواية أخرى لا يتكون عنوانها من كلمات بل يتكون من رقم. قرأت هذه الرواية أكثر من مرة، إذ كانت بعض الحوادث المدهشة تذكّرني بالعالم الذي تخيله أورويل في روايته، فيثور لدي الأمل في أن تؤدي إعادة قراءتي للرواية إلى أن أفهم مغزى هذه الحوادث على نحو أفضل.

ثم حدث منذ أيام قليلة ما ذكّرني بها من جديد، وهو حادث الحذاء الشهير الذي ألقى به صحافي عراقي في اتجاه الرئيس الأميركي بوش أثناء مؤتمر صحافي عقده بوش في زيارته الأخيرة للعراق. لا يحدث مثل هذا لكثير من الروايات. وإنما الذي جعل لرواية (1984) هذا الأثر، (وهو نفسه الذي جعل الرواية يعاد طبعها المرة بعد الأخرى دون انقطاع طوال الستين عاما الماضية وجعلها تحظى بشعبية واسعة في مختلف أنحاء العالم) هو أن فكرتها الأساسية تتعلق بما يمكن أن يحدث في العالم نتيجة للتطور التكنولوجي المستمر.

في ظل غياب أي ديمقراطية حقيقية، مع الزعم المستمر، من جانب المؤسسة الحاكمة، بأن الديمقراطية تمر بأزهى عصورها. وحيث ان ما حدث في العالم، منذ نشر الرواية لأول مرة، هو الاقتراب من هذا العالم الذي تصوّره أورويل، بسرعة فاقت ما كان يتوقعه أورويل نفسه، أصبحت الرواية أكثر فأكثر مثار اهتمام الناس، فلم يطوها النسيان كما طوى غيرها من روايات قد تكون أفضل من الناحية الفنية وأكثر عمقا من رواية أورويل. نعم تذكرتها من جديد عندما وقع حادث الحذاء. فما العلاقة بينهما؟

الدولة التي يعيش فيها laquo;ونستونraquo; بطل الرواية، دولة دكتاتورية ولكنها تزعم أنها ديمقراطية. تنكل بالناس وتعذبهم، وتزعم أنها تعمل لصالحهم. لا تسمح لهم بالحب وتكوين علاقات اجتماعية طبيعية، وتزعم أنها تحترم حقوق الإنسان. تخترع بين الحين والآخر عدوا جديدا، لا وجود في الحقيقة له، لتشيع مناخا دائما من الرعب و لتبرر تقييد الحريات، بل إن الكتاب الذي قرأه ونستون وحبيبته، ويدعو إلى الثورة ضد الدولة، وهما يظنان أنهما يقرآنه من وراء ظهرها، ظهر لهما في النهاية أنه من تأليف الدولة نفسها.

ونستون وحبيبته، مثل سائر مواطني تلك الدولة، يتعرضان لعملية مستمرة من غسيل المخ، والأداة الأساسية المستخدمة في ذلك هي التلفزيون، أو جهاز شبيه به ولكنه أكثر تقدما. وهو مفتوح باستمرار، لا يستطيع ونستون إغلاقه، إذ ان وظيفة هذا التلفزيون ليس فقط غسيل مخ الناس، بل أيضا نقل حركات الناس وسكناتهم إلى جهاز المخابرات. فإذا أراد ونستون أن يكتب مذكراته اليومية، حاول العثور على ركن في بيته لا تصل إليه عدسة التصوير المتصلة بالتلفزيون.

اكتشف ونستون الخديعة التي تمارسها الدولة ضد مواطنيها، ثم اكتشف بالمصادفة أن هناك في الوزارة التي يعمل بها (التي تحمل اسم وزارة الحقيقة وهي لا تفعل أكثر من نشر المعلومات المضللة بين الناس) امرأة لها مثل آرائه، واكتشفت مثله حقيقة النظام، فتعارفا ووقعا في الحب، ولكن سرّا لأن الحب ممنوع بأمر الدولة (إذ انه قد يؤدي إلى التمرد ضد الدولة) المسموح به فقط هو الزواج الذي يجب أن تقرّه الدولة.

ماذا فعل ونستون وحبيبته؟ إنهما لم يفكرا في أن يكوّنا حزبا ضد النظام (فهذا مستحيل تماما) ولا في إنشاء جريدة يعبران فيها عن رأيهما (فهذا مستحيل بدوره) بل ولا في أن يتصلا بأشخاص آخرين سرا ليعبّرا لهم عن مشاعرهما (فهذا يعرضهما لخطر شديد) وهما لا يستطيعان التراسل بالخطابات أو حتى الاتصال التلفوني، فالخطابات والتلفونات مراقبة. إنهما لا يطمحان إلى أكثر من اللقاء سرا، بعيدا عن عيون المخابرات، فيعبّر كل منهما للآخر عن أفكاره ومشاعره، على أمل أن يؤدي هذا إلى احتفاظ كل منهما بقواه العقلية ولا ينهار تماما أمام تيار الدعاية الكاسح، ثم ينصرف كل منهما لحاله.

كان هذا هو أقصى ما يطمحان إليه، ولكن حتى هذا ثبت أنه مستحيل. ففي الغرفة الصغيرة التي استأجراها فوق أحد المحلات التجارية التي نادرا ما يدخلها أحد، اتضح أن هناك ميكروفونا صغيرا مثبتا في الحائط يسجل عليهما كل ما يقولانه، وان صاحب المحل الذي أجّر لهما الغرفة يشتغل عميلا لجهاز المخابرات.

انتهى الأمر بالقبض عليهما. وما التهمة؟ التهمة هي التفكير ضد النظام، إذ ان من الجرائم المنصوص عليها في تلك الدولة ما يسمى laquo;بجريمة الفكرraquo;، وعقوبتها أشد من العقوبات المفروضة على اللصوص والقتلة، إذ تتضمن أيضا الضرب والتعذيب.

فلنترك رواية أورويل جانبا، ولنعد إلى قصة الصحافي العراقي الذي ألقى بفردتي حذائه في اتجاه الرئيس الأميركي أثناء مؤتمره الصحافي، وصاح أثناء إلقائه للحذاء بعبارات مهينة للرئيس. هذا الرجل لم يفكر في تكوين حزب عراقي لمقاومة الاحتلال الأميركي، فهذا أمر مستحيل، ولا حتى في الانضمام إلى بعض جماعات المقاومة الموجودة بالفعل، إذ ما الذي يمكن أن يضمن له أن هذه الجماعات ليس بها بعض عملاء المخابرات؟ بل وقد يكون بعضها قد تكوّن بفعل جهاز المخابرات نفسه. وهو لا يستطيع أن ينشر آراءه في الصحف، فالصحف خاضعة لمراقبة شديدة، ولا أن يقف ليلقي خطبه في الشارع، فهذا أيضا ممنوع منعا باتا، رغم ما تزعمه قوات الاحتلال من أنها أتت لتحقيق الديمقراطية.

ما العمل إذن؟ كيف يعبّر عن سخطه وقد فقد بعض أهله وأصدقائه نتيجة لهذا الاحتلال؟ ليس هناك إلا وسيلة واحدة: الحذاء!

نعم إنه لابد أن يقبض عليه، والله أعلم بما يمكن أن يفعلوه به بعد ذلك، ولكن كيف يستطيع الحياة أصلا وهو يضمر في داخله كل هذا الغضب؟

ألقى الرجل بحذائه، وتم بالطبع القبض عليه، ثم جاءت الأخبار بأنه قد تعرض لضرب شديد وقالت عائلته انه جرى تعذيبه. اللافت للنظر كمية الفرح والتأييد اللذين أحدثتهما واقعة الحذاء. هل معنى هذا أن هناك ملايين من الناس، في كافة أنحاء العالم، الذين لم يعد أمامهم وسيلة للتعبير عن أفكارهم إلا الحذاء؟