علي الغفلي

يبدو أن زيارة رئيس الجمهورية الإيرانية إلى لبنان كفيلة بأن تثير خليطاً من التساؤل و الارتياب لدى السياسات الرسمية العربية، ويغمر العديد من الحكومات العربية الرئيسية التخوف من الأبعاد والدلالات والعواقب المزعجة التي يمكن أن تمثلها تلك الزيارة بالنسبة للاختراق المؤكد الذي يحققه النفوذ الإيراني في المنطقة . حقيقة الأمر أن القلق العربي أمر متوقع تماماً، ذلك أن هذا ما يتعين على العرب مكابدته في ظل الاستهتار الاستراتيجي الذي يستبد بهم، ولا توجد أية نتيجة منطقية أخرى لحالة غياب الإرادة السياسية الفاعلة التي ما تزال تسود العواصم العربية منذ أكثر من عقود عدة .

إن كان بالإمكان اعتبار الجمهورية الإيرانية خصماً بالنسبة للعرب، فإن بإمكان هذا الخصم أن يطمئن إلى أن خصمه العربي ليس في أفضل حالاته على الإطلاق، وأن واقعه الذي يراوح بين التفكك والتهاون والتخبط لا يؤهله كي يتصرف بالكيفية التي تمليها متطلبات التعامل مع الخصوم . وإن كان العرب قد أدركوا بالفعل أن التدخلات الإيرانية في شؤونهم في أكثر من دولة عربية وبخصوص أكثر من مسألة عربية قد تجاوزت الحدود، فإن بإمكان طهران أن تتجاهل هذا الإدراك الذي جاء متأخراً على أية حال، والذي لن ينتج في أغلب الظن أية ترتيبات عربية مضادة لمواجهته .

ويبدو أن حالة الأسف التي تعبر عنها السياسات الرسمية العربية تجاه قرار الحكومة ldquo;الإسرائيليةrdquo; عدم التقيد بتجميد أنشطة الاستيطان في الأراضي الفلسيطينية المحتلة، بل شروع هذه الحكومة فعلياً في إجراءات بناء المئات من الوحدات السكنية، ضاربة بعرض الحائط كافة التحذيرات التي تربط بين هذا السلوك الإجرامي المستفز وإمكانية تقويض استمرار المفاوضات المباشرة بين الطرفين الفلسطيني وrdquo;الإسرائيليrdquo;، نقول إن حالة الأسف العربية هذه تبدو مصطنعة وغير مقنعة على الإطلاق . لم يكن لدى القرار الرسمي العربي أية منطلقات حقيقية يستند إليها في بادئ الأمر كي يتوقع بشكل واثق أنه كان بإمكان الحكومة ldquo;الإسرائيليةrdquo; أن تسلك أي سلوك آخر غير التعنت والتحدي، ولم يكن تغاضي العرب عن مكامن التشدد التي يزخر بها البناء المؤسسي للكيان الصهيوني ويجسدها رئيس الحكومة نتنياهو شخصياً سوى مجازفة مخالفة لمعطيات المنطق والواقع، عمدت خلالها السياسات العربية إلى ممارسة درجات غير معتادة من السذاجة، التي تشكل بدورها امتداداً لحالة انعدام الرؤية و الإرادة القياديتين في التعامل مع التهديد الجوهري الذي يمثله الكيان الصهيوني .

إذا كانت ldquo;إسرائيلrdquo; عدواً حقيقياً بالنسبة للعرب، فإن بإمكان هذا العدو أن يركن إلى الاعتقاد المطمئن بأن عدوه العربي هو الآن في أسوأ حالاته، وأن القدر اليسير من الإرادة المتوفرة لديه لا تكفي إلا لمجرد اتخاذ قرار إعطاء الفرصة للحكومة الأمريكية لقيادة مصير العرب و تسيير شؤون الشرق الأوسط . ويمكن للكيان الصهيوني أن يذهب إلى أبعد من ذلك، إذ حين يستمر العرب في التأكيد صراحة وضمناً أن خيار الحرب ضد ldquo;إسرائيلrdquo; ليس وارداً، فإن بإمكان هذه الأخيرة أن تتأكد أن ليس لديها عدو يعتد به على الإطلاق .

تفاعلت الشعوب العربية مع مواقف الحزم التي اتخذتها الحكومة التركية من خلال أكثر من حالة تجاه الحكومة ldquo;الإسرائيليةrdquo;، ومنحت الجماهير العربية في شرق الوطن العربي وغربه عواطف الإعجاب والتأييد للقيادة التركية حين ناصرت الحقوق الفلسطينية ضد صلف الكيان الصهيوني، وتعاظمت مشاعر الإكبار العربي للحدود البعيدة التي بدت تركيا مستعدة للذهاب إليها حين قررت هذه الأخيرة تسيير أسطول المساعدات البحرية إلى قطاع غزة، متحدية بذلك الموقف ldquo;الإسرائيليrdquo; العدائي والرافض للمبادرة التركية التي مزجت بين الجوانب السياسية والإنسانية . كانت جدية تركيا في خصوص كسر الحصار الجائر على غزة عميقة بقدر عمق إصرار ldquo;إسرائيلrdquo; على استمرار فرض ظروف الحرمان الظالم على نحو مليون ونصف المليون فلسطيني في القطاع، ولم تكن من نهاية طبيعية لتلك المواجهة سوى الاعتداء المسلح على دعاة المناصرة الإنسانية في عرض البحر . اتجهت عقول وقلوب الشعوب العربية إلى تركيا، ومنحتها المكانة الفائقة التي تستحقها بعد أن وجدت فيها الأمل الذي فقدته في حكوماتها العربية .

إذا كانت تركيا صديقاً واقعياً أو محتملاً بالنسبة للعرب، وهو الأمر الذي يبدو واضحاً من خلال المواقف العملية الجلية، فإن واقع الأداء الرسمي العربي يعرض الجدوى الممكنة لهذه الصداقة للضياع . ساورت أفكار ومشاعر الارتياب الحكومات العربية إزاء الدور المتنامي الذي مارسته تركيا في الأونة الأخيرة في خصوص مسائل تقع في صميم القضايا العربية العالقة . يتملك الانزعاج الذهنية الحكومية العربية حين تدفع مبادئ النزاهة والإنسانية طرفا يقع خارج النظام الإقليمي العربي مثل تركيا إلى التدخل من أجل معالجة أحد جوانب الخلل الفادح الذي يتسبب العجز العربي في استدامته، ولا ترى هذه الذهنية في هذا التدخل سوى احتمالات تحدي نفوذ العرب الموهوم في تسيير شؤونهم الاستراتيجية في المنطقة .

يتنافى الإخفاق العربي المطبق في تدبير شؤون علاقاتهم مع الخصوم والأعداء والأصدقاء مع أسس الإدارة الرشيدة لمصالحهم الاستراتيجية، ويبدد أسباب الأمل في أن تجد معالجات العرب للتحدي الذي يشكله الخصوم والتهديد الذي يجسده الأعداء والفرص التي يوفرها الأصدقاء الطريق الصحيح في التعامل الفاعل . غير أن هذا الأداء المحبط في مجمله يتوافق مع فهمنا المستقر بشأن التخلف التنموي السياسي المستشري في الوطن العربي، الذي تطاول آفاته معنى الدولة العربية ومبناها، ولا توفر موبقاته صياغة مفاهيم المصالح الوطنية و الاستراتيجية، وتفتك شروره بقواعد متطلبات السلوك المسؤول في الساحة الدولية .